عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 03-07-2000, 11:00 PM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Post حوارنا أولى من تراشقنا

أطلق الإعلام الغربي عدداً من المصطلحات التي تحولت بواسطة الآلة الإعلامية المعاصرة إلى مسلمات يتم استخدامها في المشرق كما في المغرب للتنفير من أي استنهاض إسلامي باعتباره ظاهرة سلبية، حتى لو كان التغيير المتوقع من ورائه جزئياً أو بطيئاً، ذلك لأن فلسفة الهيمنة الموروثة من عصر الاستعمار التقليدي تقوم على عدد من القواعد مثل (نجاحك يقوم على خسارة خصمك) و(أي تنازل جزئي للخصم قد يؤدي بك إلى تنازل كلي).

ويظهر التطبيق الصهيوني لمثل هذه القواعد جلياً في سعي الدولة العبرية لفرض نفسها على الشرق العربي، وفي مفاوضاتها مع العرب - لا سيما الفلسطينين - الذين خضعوا خلال القرن الماضي إلى أسوأ ما يمكن أن تتعرض له مجموعة بشرية من مخاطر على تميزها الفكري وهويتها الوطنية وانتمائها القومي. والتشويه العام لصورة أية مجموعة بشرية سيؤدي حكماً إلى تنفير الناس من الأفراد والمفردات التي تتعلق بهذه المجموعة.

وهو أمر حكم العلاقة في السابق بين الغرب المنتمي للكنيسة الكاثوليكية، وبين اليهود أنفسهم، حيث تم تصوير الشخصية اليهودية بشكل منفر. وكنت وسائل الإعلام العام والتوجه الكنسي وجل النكات الجارحة موجهة إلى المرابي اليهدي الذي لا يتورع عن بيع نفسه من أجل حفنة من الفلوس، وفي قصة (تاجر البندقية) المشهورة إيضاح لهذا التشويه الذي يمتد من أيدي الأطفال إلى عقول الكبار، أو ينسكب من عقول الكبار إلى كتب الأطفال، في حلقة تتداول كل ما هو يهودي.

وحكماء الحركة الصهيونية المعاصرة استخدموا نفس السلاح لإحراج ومحاصرة خصومهم، كما بنوا عليه خطتهم الاستراتيجية لتشويه صورة الخصم العنيد الذي لم يقبل حتى الآن التسليم بأي من النتائج التي وصلت إليها حروب العدوان الإسرائيلي على العرب، ومفوضات قطار السلام بين تل أبيب والعواصم العربية.

ففي الوقت الذي تسارع فيه بعض العواصم - لأسباب مختلفة - إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات، تبقى (الجماعات الإسلامية) وحدها خارج المعادلة، من منطلقات عقدية، لاسيما بعد الفتوى القائلة بأن (أرض فلسطين أرض وقف إسلامي، من البحر إلى النهر، لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا التفريط بها)، وبالتالي فأي إجراء قانوني لا يعني بالضرورة شرعية إسلامية.

والوقف - كما هو المعلوم - عين محبوسة لا يصح التصرف بها إلا في نطاق وصية الواقف، الأمر الذي حال بين المستعمر في القرنين الماضيين وخطط تغيير هوية البلدان الإسلامية الخاضعة له قهراً. كان الوقف (الأراضي والعقارات) شوكة في حلق الدول الاستعمارية الغربية، تحول بينها وبين خطط الهيمنة والتغيير هذه.

و(الجماعات الإسلامية) بالرغم من اختلاها وتعددها، بقيت عنواناً رئيساً لصلابة مواجهة الاتفاقات والتطبيع، فهي تقف من المسألة برمتها موقفاً عقدياً مبدئياً لا يلين بناء على وعد ولا وعيد، بل إن الصدام بين السلطة المصرية والجماعات وقع على خلفية زيارة الرئيس السادات للكيان الإسرائيلي وتوقيعه لاتفاقيات (كامب دايفيد).

والحركة الصهيونية، غير غافلة عن دور الإسلام في إحباط مخططاتها منذ اجتماعها المشهور في بال بسويسرا أواخر القرن التاسع عشر، ولم تفصل خططها الاقتصادية والاستيطانية وعملياتها ااحربية عن حملتها الإعلامية التعبوية التي استغلت فيها كل ما يمكن استغلاله من أجل تثبيت مطالبتها التاريخية الدينية المزعومة بأرض فلسطين، ومن أجل إحياء وتعميق شعارات الحروب الصليبية، بحيث يبدو أن الصهيونية تتابع ما توقف عنده فرسان الكنيسة بعدما خرجوا من الشرق مهزومين، وأن العالم الإسلامي ما زال يكن العداوة نفسها التي واجهت زحف جيوش الصليبيين باتجاه القبر المقدس.

وهي رسالة تلقى في الغرب المتمكن - لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية - صدى كبيراً، فعدة قرون من التعبئة الكنسية على خلفية قصص العهد القديم (كتاب اليهود) جعلت لمصطلحات التاريخ اليهودي حضوراً يومياً في عقول الذين تتوق أنفسهم لخلاص العالم من الحروب والشرور، وهم يؤمنون في الوقت نفسه باقتراب ظهور (المخلص) الذي سينشر العدل والسلام بعد معركة مدمرة لا مهرب منها. و(إسرائيل) المعاصرة تمثل في أذهانهم الآلية المطلوبة لتحقيق هذا الخلاص، فالهيكل و(مسيّا) و(هرمجدون) و(الكفار) كلها رموز لأمور سياسية وعسكرية تقوم في هذه المنطقة المضطربة من العالم، طرفاها دولة إسرائيل العبرية التي يرى فيها أتباع الكنائس الأمريكية رأس الخيط الموصول بعودة الخلاص المسيحي، ويرون في خصمها العنيد (الجماعات الإسلامية) العقبة التي تقف في وجه إرادة الله.

وخلاصة ما نريد قوله أن أحداً لا يلوم اجتهاد الصهيونية لتحقيق أساطيرها ومطامعها، ولكن هل من مبرر لتساهم الضحية في تحقيق ذلك؟ أما آن الأوان لتنظر الأمة بعينين واسعتين واعيتين فتختار استراتيجية الصف الواحد في مواجهة الخطر الواحد؟ أما آن الوقت لنفهم أن مصطلح (الأصولية) و(الإرهاب) يصدق على الصهيونية نفسها في منطلقاتها وأهدافها وآلياتها؟ أليس من حق التيارات المتعددة على الساحة العربية والإسلامية أن تأخذ فرصتها في التلاقي والحوار والتوصل إلى صيغة توقف التراشق الذي لا يخدم أياً منهم ولكنه يحقق للصهيونية أكثر مما توقع؟!