عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 26-01-2007, 06:37 PM
الفتنة اشد من القتل الفتنة اشد من القتل غير متصل
Banned
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2007
المشاركات: 39
إفتراضي

طلال سلمان
أُخذ اللبنانيون، خصوصاً في بيروت، على حين غرة، ظهر أمس، حين انقلب شجار بين طالبين مختلفين في الموقف السياسي، إلى اشتباك خارج الحرم الجامعي، سرعان ما مدّده مناخ التوتر السائد إلى الشوارع المحيطة ليحوّله استنفار القوى المتعارضة إلى مدخل مدوٍ لمشروع فتنة عمياء، عندما طاول رصاص القنص من على سطوح البنايات المجاورة التلامذة العائدين إلى بيوتهم، وعابري السبيل، والساعين إلى رزقهم، بمعزل عن ولاءاتهم السياسية..
استبق الانفجار التقدير العام الذي كان يتوقعه، والذي اتسعت رقعته بوتيرة ملفتة..
إلى ما قبل لحظات، كانت كثرة اللبنانيين يتابعون على شاشات التلفزة بشيء من الزهو الممتزج بالحسرة، الجهد الخارق للرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي وفر النجاح لمؤتمر باريس ـ ...3 فأما الزهو فيتصل بالنتائج الباهرة التي احتشدت لتحقيقها «الدول» عظيمها وصغيرها، موفرة للحكومة المختلف عليها في لبنان غطاءً ذهبياً عز نظيره.
وأما الحسرة فكان مصدرها استذكار مبتدع هذه الصيغة للدعم الدولي الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي استعان بصديقه الأثير شيراك لتحقيقها مرتين في حياته، وها هي الثالثة تتم بينما صورتان كبيرتان له في المؤتمرين السابقين تتصدران القاعة، وبينما اقترح من له حق الاقتراح أن يسمى المؤتمر باسم رفيق الحريري بدلاً من باريس ـ ,3 تحية وتقديراً واستذكاراً لدوره الاستثنائي في إعادة إعمار لبنان...
عند العصر، كان الناس قد انصرفوا عن مؤتمر باريس وشغلهم الهمّ الثقيل الذي عاد يفرض عليهم ظله كقدر: إلى أين يأخذهم هؤلاء الذين ينفخون في نار الفتنة، تحت شعار حماية بيروت ورفع الحصار عنها؟ ومن يحاصر بيروت التي كانت دائماً وستبقى تتسع لكل لبنان ولكل اللبنانيين، ليس لأنها عاصمتهم فحسب بل لأنها ـ قبل ذلك ـ حاضنتهم وجامعتهم ومدرستهم ومشفاهم ومطبعتهم وصحيفتهم ومصرفهم ومصدر رزقهم وموضع فخرهم واعتزازهم يباهون بها أخوانهم العرب، برغم ما أصابها من شحوب لأسباب سياسية، ويقدمونها بطاقة تعريف بأنفسهم في العالم أجمع.
صحيح أن تظاهرة الثلاثاء، بكل ما رافقها من أعمال شغب وحرائق وتعديات وتجاوزات وصدامات، قد استولدت ردود فعل غاضبة أو شاجبة، ولكنها بمجملها كانت «سياسية» وليست «طائفية» واتخذت صيغة رفع الصوت بالاعتراض على السلطة لا صيغة المواجهة بين طائفة وأخرى... ثم أن معظم تلك التجاوزات وقعت خارج بيروت، ولم تقع ملاسنة واحدة بين الناس في العاصمة، وإن كان قد أزعج أهلها الدخان الأسود الذي ظللها.
كانت المفارقة صاعقة بين المشهدين: في باريس يجلس رئيس الحكومة البتراء بكامل الأناقة بين ممثلي أكبر دول الأرض، خلفه معظم الوزراء، ومن حولهم يتراصف ممثلو الدول، عربية وأجنبية، ويطلق الرئيس الفرنسي جاك شيراك الدعوة إلى مساعدة لبنان في ما يشبه المزاد العلني: يذكّر من نسي بضرورة تحديد مبلغ الدعم، ويلوم من قصّر فدفع أقل من المتوقع، ويكاد يسخر من دولة غنية (هولندا مثلاً) تبخل على النموذج الديموقراطي في الشرق بحفنة من الدولارات!
أما في بيروت فكانت ريح الفتنة، التي وجدت من يوقظها، تجتاح الشوارع فتحرق سيارات ومحلات تجارية ومكاتب، وتقطع طرقات، وتثير الذعر في نفوس أهل المدينة جميعاً، على اختلاف طوائفهم والمذاهب، وتوقع أربعة قتلى ومئات الجرحى من عابري السبيل أو الذاهبين لاستنقاذ أبنائهم من الخطر الذي بات يستهدف مدارسهم ولا يوفر حتى «الأوتوكارات» التي تذهب بهم صباحاً وتعود بهم عند العصر.
في باريس لم يسأل أحد رئيس الحكومة عن الأزمة في بلاده، ولماذا حكومته بتراء؟ ولم يتوقف أحد أمام أسباب استمرار الأزمة السياسية التي تكاد تفجّر لبنان؟! ولم يناقش أحد ما إذا كانت المساعدات والقروض والهبات، ولو بالمليارات، تكفي لتفريج الوضع المأزوم في لبنان، وهل هي تساعده على استعادة وحدته أم ستفاقم من مشكلاته التي «تخيّم» في الشارع، في انتظار حل يأتيها من الرياض، أو من الرياض ـ طهران، أو عبر «المبادرة العربية» التي جمدها النقص في مرتكزاتها، أو اعتراض بعض من يعطون أنفسهم حق «الفيتو» عليها..
وفي بيروت لم يتنبّه من تورّط في الشجار أو ذهب إليه قاصداً، ومن استغل هذا الشجار لتحويله إلى معركة كان يعرف ـ لا بد ـ أنها سوف تتخذ الطابع المذهبي، وستمتد نارها في هشيم الحساسيات والأحقاد خصوصاً وأن ثمة من سوف ينفخ فيها ويعمل على تأجيجها لتضرب احتمالات الحل، بعد باريس ـ ,3 كما عمل على تعطيل الحل قبل المؤتمر لاجئاً إلى الأسلحة جميعاً، بما فيها العنصرية!
في باريس انتبه كثير من ممثلي الدول إلى خطورة الخلاف السياسي في لبنان، وطالبوا بمعالجته بالعودة إلى أفياء التوافق الوطني... لكن كوندليسا رايس كانت مهتمة بأمر واحد فقط: تصنيف «حزب الله» كمنظمة إرهابية (وهو الذي كان شريكاً في الحكومة البتراء إلى ما قبل شهور ثلاثة) ومن ثم ضرورة التحرر من التدخل الخارجي... كأنما هي «من الداخل» وتتحدث «باسم الداخل» وغيرها الخارج.
وفي باريس استذكر الحريصون على لبنان خطورة غياب الوفاق الوطني، وشددوا على ضرورة استعادته بأي ثمن... وربطوا بين الحرب الإسرائيلية وبين ما يعاني منه لبنان، وكرز العديد من المسؤولين أرقاماً مخيفة عن القنابل العنقودية والألغام التي ما تزال تفتك بالمواطنين في بعض أنحاء الجنوب. كذلك فإن الأكثر حرصاً على وحدة لبنان واستقراره وجد ضرورياً أن يذكّر بممارسات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وبتداعيات الفتنة التي استولدها الاحتلال الأميركي للعراق على المنطقة عموماً..
وفي باريس، وعبر مؤتمرها الدولي، رأى المحللون والخبراء السياسيون أن هذه القروض والهبات والمساعدات إنما أعطيت للحكومة البتراء من أجل مواجهة تحد يقوده «حزب الله»، على حد تقديرها..
أما في بيروت، وبعدما تعالت ألسنة الحريق تطاول بعض ركائز «الوطن» وبعض ثوابت السلم الأهلي، فقد توالت النداءات والمناشدات للمشتبكين، على أنواعهم بضرورة الوقف الفوري للاشتباك والاعتصام بالصبر وبالحكمة والعودة إلى منازلهم..
أطلق سعد الحريري نداء خص به «أهل بيروت الصابرة»، بداية، ثم في المناطق «بضرورة التعالي على الجراح لوأد الفتنة ولوقف مسلسل الفلتان الذي يستهدف عاصمتنا وحبيبتنا بيروت والوقوف في وجه محاولات تحويل بيروت إلى خطوط تماس..».
وشدد سعد الحريري على أن «الدولة هي مرجعنا، وهي المسؤولة عن اللبنانيين.. ولن نتخلى عن واجبنا في حماية الدولة ومؤسساتها وأجهزتها» داعياً إلى التعاون مع الجيش والقوى الأمنية لفرض سلطة القانون.
وأصدر الرئيس نبيه بري نداءً وجهه إلى المعارضة والموالاة على حد سواء محذراً من الفتنة، داعياً الجميع إلى الخروج من شوارع الاحتكاك والعودة إلى منازلهم، تاركين مسؤولية حفظ الأمن لمن هي في صلب مهمتهم: الجيش والأجهزة الأمنية.
أما الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله فلم يكتف بالدعوة إلى العودة إلى المنازل وإخلاء الشوارع والامتناع عن مواجهة ما يخطط له الآخرون بل هو أكد على ندائه وقال «إنه من الواجب الوطني والديني والشرعي. نعم هنا يجب أن نستخدم الفتوى.. لمصلحة الوطن وسلامه وسلمه الأهلي وعيشه المشترك».. وهو قد نبّه «بعض التيارات السياسية إلى ألا تنجر خلف جماعات ذات تاريخ ميليشياوي ـ حربي ـ اقتتالي» داعياً القضاء اللبناني والجيش إلى التشهير بكل من يستخدم السلاح ويلجأ إلى السلاح ويطلق النار».
بالمقابل فإن وليد جنبلاط قد أيقظ «الشياطين» جميعاً حين لخص الأمر ببساطة مفجعة: «عندما فشلوا في حصار بيروت من خارجها ها هم يحاولون حصارها من داخلها».. وخلافاً لموقفه المعلن قبل يومين والذي كان يتضمن هجوماً حاداً على الجيش لأنه لم يتدخل لوقف تظاهرة المعارضة، فإنه توجه إلى الجيش والمؤسسات الأمنية بتحية حارة.
في أي حال، فبعد اتصالات امتدت بين بيروت وباريس، شارك فيها الرئيسان نبيه بري وفؤاد السنيورة وسعد الحريري ووليد جنبلاط وقيادات أخرى، استقر الرأي على تكليف الجيش مهمة ضبط الأمن وفرض سيطرته على المدينة وإخلاء الشوارع من المسلحين، فكان القرار بفرض منع التجول، طوال الليل.
ثم تلاه قرار وزير التربية بوقف الدراسة في الجامعات والمدارس، وتوالت بيانات الالتزام به حتى شملت جميع المؤسسات التربوية.
٭ ٭ ٭
لقد عاش اللبنانيون يوم أمس شعوراً ممضاً بأن بلادهم على حافة التمزق في غمار فتنة عمياء... فعندما تتهاوى الحلول السياسية، أو يتعذر إمرارها، نتيجة الضغط الخارجي بأغراضه الثقيلة التي تمس «تركيبة» لبنان، وتحاول شطب أو إلغاء بعض ثوابته، فإن هذا الوطن الصغير يتهاوى، وتعجز بنيته الفسيفسائية عن حمل أثقال التدخلات فيلوح خطر الانقسام أو التقسيم أو التوزع فيدراليات طوائف..
وبرغم أن أحداً من اللبنانيين لم يعترض على المنطلق في عقد مؤتمر باريس ـ ,3
وبرغم أنهم يعرفون جميعاً أن لبنان يحتاج إلى العون الدولي، لإنقاذه من غائلة الدين العام التي تكاد تلتهم ما تبقى من مدخرات شعبه ومن إنتاج أهله، بغير أن يلوح أفق سدادها أمام الأعظم قدرة على استكشاف الغيب،
إلا أن اللبنانيين يعرفون أن البداية والنهاية تتمثل في الوفاق الوطني.
فالوفاق شرط لازم للدولة وكيانها، كما لحكوماتها التي إن خرجت عن سياقه تعثرت فغدت بين أسباب التعجيل في انهيار الدولة وبالتالي في إثارة الفتنة.
وإن لم تعالج مشكلة الانقسام الخطير بالعودة إلى ركائز التوافق الوطني والمشاركة في المسؤولية عن البلاد، بدولتها وشعبها، فإن ما شهده العالم من أحداث مأساوية مخيفة في بيروت أمس، لسوف يتكرر، وعلى نطاق أوسع وبصيغ دموية أشد هولاً.
ونفترض أن لبنان الذي استحق اقتصاده مثل هذه النجدة الدولية الملفتة، يستحق من إخوانه العرب ومن أصدقائه في العالم، الأقرب فالأقرب، عناية تتوجه إلى ترميم وحدته الوطنية، وتثبيت توافقه السياسي بجمع كل أطرافه في واجـب حماية الوطن بشعبه ودولته.
مع الانتباه إلى أن رياح الفتنة التي تضرب العراق وشعبه العظيم تحت الاحتلال الأميركي تتجه بنارها إلى الوضع اللبناني الشديد الحساسية فتفاقم من المخاطر ما قد يذهب بدولته وأهله جميعاً..
وبالطبع فإن من يطلب الأمان والاستقرار لن يجده في «التوجيه» الأميركي الأخير الذي أطلقه السفير في بيروت جيفري فيلتمان والذي استذكر فيه ثأراً لا يسقط بمرور الزمن على «حزب الله»، مشيراً إلى العزم على الثأر لأربعمائة جندي وعنصر مخابرات سقطوا في تفجيرات طالت السفارة ومركز تحصن المارينز .1983
ولنأمل أن ينتصر وعي اللبنانيين، قيادات ومسؤولين ومواطنين، على الفتنة ودعاتها والمستفيدين منها... على الطريقة الأميركية أعلاه!

http://www.assafir.com/Article.aspx?...&EditionId=549