سعاده: من الطفولة حتى قبيل التأسيس
-
لبيب ناصيف
النشـأة :
- ولد أنطون سعاده في الأول من آذار عام 1904 في بلدة الشوير – قضاء المتن الشمالي ، لبنان ، من أبوين شويريين :
· والده هو الدكتور خليل سعاده ، وكان طبيباً وصحفياً وكاتباً وروائياً ولغوياً ، وواحداً من أبرز القادة الوطنيين في تلك المرحلة (1) .
· والدته السيدة نايفة نصير ، هاجرت مع والدتها إلى الولايات المتحدة . أدخلت إلى المدرسة في شيكاغو فأظهرت توقداً ذهنياً نوهت به إحدى الصحف الصادرة في المدينة وأطرت تفوقها . عادت إلى الوطن لتلتقي الدكتور خليل سعاده فيتم زواجهما وترزق منه سبعة أولاد ، ستة ذكور وأنثى واحدة: أرنست ، آرثور ، تشارلي ، أنطون ، سليم ، ادوار ، وغريس (عائدة كما راح يدعوها سعاده) .
- عام 1909 تلقى سعاده المبادئ الأولية للقراءة والكتابة في مدرسة الشوير على يد المعلم حنا رستم.
- في سنة 1913 ، وهو في التاسعة من عمره ، يودع جدته العجوز التي كان في عهدتها مع اخوته الصغار ويبحر من بيروت إلى مصر حيث كان غادر إليها والده في نهاية كانون الأول 1909 بسبب مواقفه الوطنية . إنما لم تطل إقامة سعاده واخوته الصغار في مصر فقد عاد بعدها إلى الوطن في أواخر العام 1913 بسبب وفاة والدته . أما والده فقد اضطر لمغادرة مصر إلى الأرجنتين .
- قضى العام 1914-1915 في مدرسة الأميركان في الشوير التي كان يديرها المعلم فارس بدر ، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى وجد نفسه أمام مسؤولية رعاية اخوته الصغار ، وإن بكنف جدته لأبيه التي توفيت عام 1915 عن ثمانين عاماً .
- انتقل العام 1915-1916 إلى المدرسة الرسمية في الشوير التي كان يديرها المعلم هيكل صوايا.
- في تلك الأيام ، ابان الحرب العالمية الأولى ، قاسى واخوته الصغار ، كما معظم العائلات اللبنانية ، الجوع (2) مما اضطره واخوته في أواخر العام 1916 للانتقال إلى برمانا ليصبحوا ، ككثيرين غيرهم من أولاد الشوير والمنطقة ، من زبائن المطعم الذي تنادى لإنشائه فريق من السيدات اللواتي راعهن انتشار الجوع في منطقتهن ، وقد أمكن لهن تسلم مبنى مدرسة جمعية الأصدقاء البريطانية (Friends) الذي كان يحتله الجيش التركي ، ويحوّلن المدرسة إلى مركز للمطعم ، إضافة إلى استئناف بعض الدروس البسيطة .
- أمضى سعاده واخوته الصغار المدة المتبقية من الحرب العالمية الأولى في هذا المركز ، وفيه كان له موقفان بارزان دل فيهما على حسّه الوطني المبكر . الأول أنه رفض حمل العلم التركي في مقدمة صفوف التلامذة عندما زار الحاكم العثماني جمال باشا المركز المذكور . والثاني عندما وضعت الحرب أوزارها ، بتسلقه سارية المدرسة وإنزاله العلم التركي وتمزيقه إرباً .
- في أواخر العام 1919 غادر سعاده واخوته الصغار (سليم ، ادوار وغريس) الوطن إلى الولايات المتحدة الأميركية ملتحقين باخوتهم الكبار الذين كانوا في عهدة خالهم سليمان نصير . (3)
في البرازيل :
- في حزيران 1920 غادر الدكتور خليل سعاده الأرجنتين متوجهاً إلى الولايات المتحدة للالتحاق بأبنائه . إلا أن الجالية السورية في البرازيل التي استقبلته بحرارة في مرفأ السانطوس البرازيلي ألحت عليه للبقاء في البرازيل ذلك أن شهرة الدكتور خليل كطبيب حاذق وعالم علاّمة ومفكر لامع ووطني كبير كانت قد سبقته إلى البرازيل ، خاصة وأن فيها جالية كبيرة من أبناء بلدته الشوير ، فاستقر في سان باولو وكتب إلى الولايات المتحدة يطلب حضور أبنائه الصغار فقط لأنه لم يشأ أن يقطع الكبار منهم دراساتهم العليا هناك .
- في 7 شباط 1921 وصل سعاده واخوته (سليم ، ادوار وغريس) إلى البرازيل . وفيما دخل اخوته مدرسة سورية كانت تعطي دروساً بالعربية والبورتغالية والإنكليزية آثر سعاده أن يدرس على نفسه ، وعلى أبيه ، والتفرغ لمعاونة والده في جريدة "الجريدة" التي كان الدكتور خليل قد باشر بإصدارها في 5 آب 1920 .
- راح سعاده ، الفتى ، يداوم في المطبعة وأخذ يتعلم مهنة رصف الحروف العربية فاتقنها خلال مدة وجيزة ، بحيث صار يرصف الحروف لمقالات الجريدة بعناية وبراعة فائقتين ، وانكب أيضاً على المطالعة والدرس فما ان ينتهي من قراءة كتاب حتى يتناول غيره . كان يحسن العربية والإنكليزية والفرنسية ، إنما لم تمر عليه ستة أشهر حتى كان يتقن اللغة البورتغالية قراءة وتحدثاً ، فصار يشتري بما يتقاضاه كتباً بالبورتغالية بالإضافة إلى ما كانت تحتويه مكتبة أبيه من كتب إنكليزية وعربية . كذلك انكب سعاده على قراءة الأعداد من جريدة "الجريدة" التي كانت صدرت قبل وصوله إلى البرازيل ، كما قرأ مجموعة "المجلة" التي أصدرها والده في الأرجنتين ، والصحف السورية الأخرى في البرازيل ، بحيث تكونت لديه صورة جيدة عن الوضع العام في المهجر .
- في 21 نيسان 1921 صدر العدد 25 من جريدة "الجريدة" حاملاً أول إنتاج لسعاده ، وهو ما يزال في مطلع السابعة عشرة من عمره ، وكان إنتاجه تعريب مقال "معركة جوتلاند". (نشره على عددين) ثم اتبعه بنشر تعريبه "مذكرات ولي عهد المانية" .
- لم تمض فترة وجيزة على نشر المقالات المعرّبة حتى بدأ سعاده كتابة مقالات خاصة عالج فيها شؤون الوطن ، فظهر فيها بوضوح شعوره القومي المرهف ونضجه ووعيه المبكران ، وذكاؤه الحاد النادر المثال . وقد استقبلت الجالية السورية مقالاته بالإعجاب والدهشة وتساءل كثيرون منها إذا كان كاتبها هو ذلك الفتى اليافع الطري العود ، أم أباه .
- مع انتهاء العام 1922 اقترح سعاده على والده توقيف جريدة "الجريدة" التي كانت قد انتقلت من جريدة تصدر أسبوعية ، إلى يومية ، لما في ذلك من نفقات باهظة ومتاعب ثقيلة ، فقبل الدكتور سعاده اقتراح نجله وقرر توقيف الجريدة وإعادة إصدار مجلة "المجلة" التي كان أصدرها في الأرجنتين ، وفي أول شباط 1923 صدر العدد الأول منها .
- اقتصرت كتابات سعاده لمجلة "المجلة" في عامها الأول على خمس مقالات إذ راح يوجه اهتمامه لشؤونها الإدارية ، إلى جانب اختيار المواضيع المناسبة لتنشر فيها ، ثم تصحيحها وتبويبها .
- في أواخر العام 1923 ، درس سعاده اللغة الألمانية بعد أن كان تعرف على عائلة المانية مهاجرة إلى البرازيل ، وما ان شارفت السنة التالية 1924 على الانتهاء حتى كان سعاده يقرأ الألمانية بسهولة . فانكب على قراءة كتب الفلسفة والتاريخ والفنون والآداب بالألمانية ، إلى جانب عمله في "المجلة" ، وقد راح ينشر المقالات الهامة وهو شارف على العشرين من عمره ، مزوّداً بتجارب واختبارات عديدة وبمطالعات كثيرة .
- مع بدء العام 1925 وفيما سعاده يتابع عمله في "المجلة" إدارة وتحريراً ، ويراقب نشاط الأحزاب والجمعيات ، وكان تجمع حوله عدد من الشباب المثقف الثائر على ما يقوم به الانتداب الفرنسي في الوطن من ظلم وطغيان ، راحت تختمر في رأسه فكرة تأسيس جمعية وطنية سياسية لها مبادئ صحيحة وأهداف واضحة . وبعد تفكير وإمعان نظر رأى أن يختار من أولئك الشباب من تتوفر فيه الثقافة والأخلاق والشعور الوطني ، فاختار ستة فقط (4) وفي شباط 1925 أخبرهم بعزمه على تأسيس جمعية وطنية سرية فدائية يكونون فيها حجارة الأساس .
- بعد فترة قصيرة عرض أحد أصدقاء سعاده عليه الانتماء إلى الماسونية بواسطة محفل "نجمة سورية" في سان باولو الذي كان يرأسه والده الدكتور خليل سعاده ، وكان جميع أعضائه من المواطنين السوريين (5) .
في شهر آذار 1925 أصبح سعاده في الواحد والعشرين من عمره مستكملاً بذلك أحد الشروط المطلوبة للدخول إلى الماسونية . وكان سعاده قد قرأ بعض المنشورات الماسونية التي تشرح مبادئها وغايتها وأهدافها ، فرأى أنه يمكن إذا صفت النيات وحسن العمل توحيد المحافل السورية في العالم لخلق قوة معنوية كبيرة وإطلاقها من أجل الدفاع عن حرية الوطن المسلوبة وحقوقه المهضومة . وانتمى سعاده إلى محفل "نجمة سورية" وراح يمارس واجباته فيه .
- تابع سعاده مع أصدقائه الستة المشار إليهم أنفاً موضوع تأسيس الجمعية التي أطلق عليها اسم "جمعية الشبيبة الفدائية السورية" وطلب أن يتصل كل واحد منهم بخمسة مواطنين ويدعوهـم للانضمـام إلى الجمعية على أن يكون المدعوون وطنيين ذوي سلوك حسن وأن لا يتجاوز عمر كل منهم الثلاثين عاماً .وتتالت الاجتماعات . وفي إحداها قرأ سعاده مبادئ الجمعية التي وضعها بنفسه ، وغايتها ، وشدد في نظامها على سريتها . فيه تمّ انتخاب سعاده بأكثرية الأصوات رئيساً للجمعية رغم كونه أصغر المرشحين سناً .
لكن الأمر لم يطل ، إذ سرعان ما بدأ البعض يتذمر من سرية الجمعية ، مفضلاً عليها العمل العلني ، وإطلاق الشعارات ، مما جعل سعاده يتقدم باستقالته من رئاسة الجمعية والانسحاب منها . وقد رافقه بالانسحاب زملاؤه الستة وعدد آخر من الأعضاء . فيما بدل الذين ظلوا فيها اسمها فدعوها "الرابطة الوطنية السورية" وحوّروا في مبادئها وغايتها كما شاؤوا .
- بعد مرور ثلاثة أشهر على انتماء سعاده للماسونية وشهرين على انسحابه من "الجمعية" دعا زملاءه الستة وأخبرهم أنه قرر متابعة العمل وتأسيس جمعية جديدة باسم "حزب الأحرار السوريين" تبقى سرية إلى أن يبلغ عدد أعضائها المئة (6) .