اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى التوحيد، الساعي بالنصح للقريب والبعيد، المحذر للعصاة من نار تلظى بدوام الوقيد، المبشر للمؤمنين بدار لا ينفذ نعيمها ولا يبيد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة لا تزال على كرر الجد يدين في تجديد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد فإن الله جل جلاله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ويخافوه ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف الإجلال والتعظيم.
وذكر جل وعلا شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن نبذ أمره وعصاه ليتقوه بصالح الأعمال.
ودعا عباده إلى خشيته وتقواه والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه وياباه.
وبعد فقد عزمت إن شاء الله تعالى أن أجمع من كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه، ومن كلام رسوله ومن كلام أهل العلم، ما يحثني وإخواني المسلمين على التأهب والاستعداد لما أمامنا، من الكروب والشدائد والأهوال والأمور العظائم والمزعجات المقلقات الصعاب.
وسميت هذا الكتاب "اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات قبل هجوم هادم اللذات ومشتت الشمل ومفرق الجماعات".
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفعنا به وإخواننا المسلمين إنه القادر على ذلك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
(فصل)
تكلم أحد العلماء في صفة يوم القيامة ودواهيه وأساميه فقال: فاستعد يا مسكين لهذا اليوم العظيم شأنه المديد زمانه القاهر سلطانه القريب أوانه يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والكواكب قد انتثرت، والبحار قد سجرت، والنجوم قد انكدرت، والشمس قد كورت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والنفوس قد زوجت، والجحيم قد سعرت، والجنة قد أزلفت، والجبال قد نسفت، والأرض قد مدت.
يوم ترى الأرض فيه قد زلزلت زلزالها، يوم فيه تخرج الأرض أثقالها، وتحدث أخبارها يومئذ يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم، يوم تحمل الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدة.
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ.
يومٌ فيه تسير الجبال وترى الأرض بارزة، يوم ترج فيه الأرض رجًا، وتبس فيه الجبال بسًا، فكانت هباءًا منبثًا، يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المفنوش.
يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار.
يوم تنسف الجبال فيه نسفًا فتترك قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، يوم ترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، يوم تنشق فيه السماء فتكون وردةً كالدهان، فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان يوم فيه يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام، يوم تعلم فيه كل نفسٍ ما أحضرت، يوم تنطق فيه الجوارح.
يوم شيب ذكره سيد المرسلين إذا قال له الصديق أراك قد شبت يا رسول الله : "شيبتني هود وأخواتها" وهي الواقعة والمرسلات وعم يتسألون، وإذا الشمس كورت.
قال ابن القيم رحمه الله في ذكر بعض أهوال يوم القيامة:
وَتَحَدِّثُ الأرضُ التِيْ كُنَّا بهَا ** وتَظلُ تَشْهَدُ وهْيَ عَدْلٌ بالذي
وتُمَدُّ أيضًا مِثْلُ مَدِّ أدِيْمِنَا ** وَتَقْيءُ يومَ العَرضِ مِن أكبادِهَا
كلُ يَراهُ بعَيْنِهِ وعِيَانِهِ ** وكذا الجِبالُ تُفَتُ فَتًا مُحْكَمًا
وتَكُونُ كالعِهْنِ الذي ألوانُهُ ** وتُبَسُ بَسًا مِثْلَ ذاكَ فَتَنْثَنِي
وكَذَا البِحَارُ فإنَّها مَسْجُورةٌ ** وكَذَا لِكِ القَمَرَان يَأْذَنُ ربُنَا
هَذِيْ مُكَوَّرةٌ وَهَذا خَاسِفٌ ** وكَوَاكِب الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا
وكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُ شَقًا ظاهِرًا ** أخْبَارَهَا في الحَشْرِ لِلرَّحمنِ
مِن فَوقِها قد أحَدَثَ الثَّقلانِ ** مِن غيرِ أوْدِيةٍ ولا كُثْبَانِ
كالأصْطِوَانِ نَفَائِسَ الأثْمَانِ ** ما لامِرْئٍ بالأخذِ منه يَدَانِ
فَتَعُودُ مِثْلَ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ ** وصِبَاغُه مِن سَائِر الألْوَانِ
مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسانِ ** قد فُجرتْ تَفْجِيرَ ذِي السُلطَانِ
لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ ** وكِلاَهُمَا في النَارِ مطْرُوحَانِ
كَلالِئٍ نُثِرَتْ عَلى مَيْدَانِ ** وتَمُورُ أيضًا أَيَّمَا مَوَرَانِ
وتصير بعد الانشقاق كمثل هذا المهل أو تكُ وردةً كالدهان
وقال القحطاني رحمه الله:
يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ** يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَولِهِ
يَوْمٌ عَبُوْسٌ قَمْطَريْرٌ شَرُهُ ** يَوْمَ يَجِيءُ المُتَقُونَ لِرَبهم
ويَجِيءُ فِيه المُجْرِمُونَ إِلى لَظَى ** لَفَرَرْتَ مِن أهْلٍ ومِن أوْطَانِ
وتشيبُ مِنه مَفَارِقُ الوِلَدَانِ ** في الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيْم الشَّأنِ
وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِن العِقْيَانِ ** يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُظَ العَطْشَانِ