وقال هارون بن الزيات حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد العزيز بن علي بن ميمون عن معن بن خلاد عن أبيه قال: لما استنزل عبد الملك زفر بن الحارث الكلابي من قرقيسيا، أقعده معه على سريره، فدخل عليه ابن ذي الكلاع. فلما نظر إليه مع عبد الملك على السرير بكى. فقال له: ما يبكيك? فقال: يا أمير المؤمنين، كيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك، ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض قال: إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم علي منك، ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني. فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال: أما والله لأقومن في ذلك مقاما لم يقمه ابن ذي الكلاع ثم خرج حتى دخل على عبد الملك. فلما ملأ عينه منه قال:
وكأس مثل عين الديك صرف *** تنسي الشاربين لها العقـولا
إذا شرب الفتى منها ثـلاثـا *** بغير الماء حاول أن يطـولا
مشى قرشية لا شك فـيهـا *** وأرخى من مآزره الفضولا
فقال له عبد الملك: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك. قال: أجل والله يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو الله هذا معك على السرير وهو القائل بالأمس:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى *** وتبقى حزازات النفوس كما هـيا
قال: فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير وقال: أذهب الله حزازات تلك الصدور. فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين والعهد الذي أعطيتني. فكان زفر يقول: ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.
وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مسلم عن سعيد بن الحارث عن عبد الخالق بن حنظلة الشيباني قال: قال الأخطل: فضلت الشعراء في المديح والهجاء والنسيب بما لا يلحق بي فيه. فأما النسيب فقولي:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بـدر *** وإن كان حيانا عدى آخر الدهـر
من الخفرات البيض أما وشاحهـا *** فيجري وأما القلب منها فلا يجري
وقولي في المديح:
نفسي فداء أمير المؤمنـين إذا *** أبدى النواجذ يوما عارم ذكـر
الخائض الغمرة الميمون طائره *** خليفة الله يستسقى به المطـر
وقولي في الهجاء:
وكنت إذا لقيت عبـيد تـيم *** وتيما قلت أيهم العـبـيد
لئيم العالمين يسود تـيمـا *** وسيدهم وإن كرهوا مسود
قال عبد الخالق: وصدق لعمري، لقد فضلهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية عن محمد بن داود قال: طلق أعرابي امرأته فتزوجها الأخطل، وكان الأخطل قد طلق امرأته قبل ذلك. فبينا هي معه إذ ذكرت زوجها الأول فتنفست، فقال الأخطل:
كلانا على هم يبيت كـأنـمـا *** بجنبيه من مس الفراش قروح
على زوجها الماضي تنوح وإنني *** على زوجتي الأخرى كذلك أنوح
أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش: أن الأخطل قال لعبد الملك بن المهلب: ما نازعتني نفسي قط إلى مدح أحد ما نازعتني إلى مدحكم، فأعطني عطية تبسط بها لساني، فوالله لأردينكم أردية لا يذهب صقالها إلى يوم القيامة. فقال: أعلم والله يا أبا مالك أنك بذلك ملىء، ولكني أخاف أن يبلغ أمير المؤمنين أني أسأل في غرم وأعطى الشعراء فأهلك ويظن ذلك مني حيلة. فلما قدم على إخوته لاموه كل اللوم فيما فعله. فقال: قد أخبرته بعذري.
أخبرني عمي عن الكراني عن دماذ عن أبي عبيدة قال: قال رجل لأبي عمرو: يا عجبا للأخطل نصراني كافر يهجو المسلمين. فقال أبو عمرو: يالكع لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز وحرز خز، في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن.
وقال هارون حدثني أحمد بن إسماعيل الفهري عن أحمد بن عبد الله بن علي الدوسي عن معقل بن فلان عن أبيه عن أبي العسكر قال: كنا بباب مسلمة بن عبد الملك، فتذاكرنا الشعراء الثلاثة، فقال أصحابي: حكمناك وتراضينا بك. فقلت: نعم، هم عندي كأفراس ثلاثة أرسلتهن في رهان، فأحدها سابق الدهر كله، وأحدها مصل، وأحدها يجيء أحيانا سابق الريح وأحيانا سكيتا وأحيانا متخلفا. فأما السابق في كل حالاته فالأخطل. وأما المصلى في كل حالاته فالفرزدق. وأما الذي يسبق الريح أحيانا ويتخلف أحيانا فجرير، ثم أنشد له:
سرى لهم ليل كأن نجومه *** قناديل فيهن الذبال المفتل
وقال: أحسن في هذا وسبق. ثم أنشد:
التغلبية مهرها فلسـان *** والتغلبي جنازة الشيطان
وقال: تخلف في هذه. فخرجنا من عنده على هذا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو يعلى قال حدثني عبد السلام بن حرب قال: نزل الفرزدق على الأخطل ليلا وهو لا يعرفه، فجاءه بعشاء ثم قال له: إني نصراني وأنت حنيف، فأي الشراب أحب إليك? قال: شرابك. ثم جعل الأخطل لا ينشد بيتا إلا أتم الفرزدق القصيدة. فقال الأخطل: لقد نزل بي الليلة شر، من أنت? قال: الفرزدق بن غالب. قال: فسجد لي وسجدت له. فقيل للفرزدق في ذلك، فقال: كرهت أن يفضلني. فنادى الأخطل: يا بني تغلب هذا الفرزدق. فجمعوا له إبلا كثيرة. فلما أصبح فرقها ثم شخص.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان مما يقدم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف عن الفحش. وقال الأخطل: ما هجوت أحدا قط بما تستحي العذراء أن تنشده أباها.
أخبرني أحمد وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا بن شبة قال حدثني محمد بن عباد الموصلي قال: خرج يزيد بن معاوية معه عام حج بالأخطل. فاشتاق يزيد أهله فقال:
بكى كل ذي شجو من الشأم شاقه *** تهام فأنى يلتقـي الـشـجـيان
أجز يا أخطل، فقال:
يغور الذي بالشأم أو ينجد الذي *** بغور تهامات فـيلـتـقـيان
أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قيل لأبي العباس أمير المؤمنين: إن رجلا شاعرا قد مدحك، فتسمع شعره? قال: وما عسى أن يقول في بعد قول ابن النصرانية في بني أمية:
شمس العداوة حتى يستقاد لهـم *** وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قال هارون وحدثني هارون بن سليمان عن الحسن بن مروان التميمي عن أبي بردة الفزاري عن رجل من تغلب قال: لحظ الأخطل شكوة لأمه فيها لبن وجرابا فيه تمر وزبيب، وكان جائعا وكان يضيق عليه، فقال لها: يا أمه، آل فلان يزورونك ويقضون حقك وأنت لا تأتينهم وعندهم عليل، فلو أتيتهم لكان أجمل وأولى بك. قالت: جزيت خيرا يا بني لقد نبهت على مكرمة. وقامت فلبست ثيابها ومضت إليهم. فمضى الأخطل إلى الشكوة ففرغ ما فيها وإلى الجراب فأكل التمر والزبيب كله. وجاءت فلحظت موضعها فرأته فارغا، فعلمت أنه قد دهاها، وعمدت إلى خشبة لتضربه بها، فهرب وقال:
ألم على عنبات العجوز *** وشكوتها من غياث لمم
فظلت تنادي ألا ويلهـا *** وتلعن واللعن منها أمم
وذكر يعقوب بن السكيت هذه القصة، فحكى أنها كانت مع امرأة لأبيه لها منه بنون، فكانت تؤثرهم باللبن والتمر والزبيب وتبعث به يرعى أعنزا لها. وسائر القصة والشعر متفق. وقال في خبره: وهذا أول شعر قاله الأخطل.
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن فيروز عن الأصمعي عن أمامة ورعوم اللتين قال فيهما الأخطل:
صرمت أمامة حبلها ورعوم ورعوم وأمامة بنتا سعيد بن إياس بن هانىء بن قبيصة، وكان الأخطل نزل عليه فأطعمه وسقاه خمرا وخرجتا وهما جويريتان فخدمتاه. ثم نزل عليه ثانية وقد كبرتا فحجبتا عنه، فسأل عنهما وقال: فأين ابنتاي? فأخبر بكبرهما، فنسب بهما. قال: والرعوم هي التي كانت عند قتيبة بن مسلم وكان يقال لها أم الأخماس، تزوجت في أخماس البصرة محمد بن المهلب وعامر بن مسمع وعباد بن الحصين وقتيبة بن مسلم، وكان يقال لها الجارود.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال قال أبو عبد الملك: كانت بكر بن وائل إذا تشاجرت في شيء رضيت بالأخطل، وكان يدخل المسجد فيقدمون إليه. قال: فرأيته بالجزيرة وقد شكي إلى القس وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه وهو يصيء كما يصيء الفرخ. فقلت له: أين هذا مما كنت فيه بالكوفة? فقال: يا بن أخي، إذا جاء الدين ذللنا.
وقال يعقوب بن السكيت زعم غيلان عن يحيى بن بلال عن عمر بن عبد الله عن داود بن المساور قال: دخلت إلى الأخطل فسلمت عليه، فنسبني فانتسبت، واستنشدته فقال: أنشدك حبة قلبي، ثم أنشدني:
لعمري لقد أسريت لا لـيل عـاجـز *** بسلهبة الخـدين ضـاوية الـقـرب
إليك أمير المؤمـنـين رحـلـتـهـا *** على الطائر الميمون والمنزل الرحب
فقلت: من أشعر الناس? قال: الأعشى. قلت: ثم من? قال: ثم أنا.