الموضوع: شظايا ذاكرة ..
عرض مشاركة مفردة
  #19  
قديم 21-05-2007, 07:04 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

صيف 1966

عندما فتح لها ابنها (محمود) باب السيارة، كان عليها أن تكيف طولها المتوسط، أصلا، وتنحني بشكل جانبي لتجلس في السيارة، ولكنها تمنعت في البداية و تمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة، وكان تمنعها كتمنع (ناقة) عاشت في الصحراء، واشتراها أبناء ريف ليذبحوها في عيد الأضحى، فهي لم تتعود الدخول من خلال بوابات لها أضلاع ثلاثة لتحصر ما بينها من فضاء يعلو الأرض ..

لم تكن أم محمود ذات السبعين خريفا، قد قامت بمغامرة لركوب السيارة قبل ذلك، ولم تكن تغادر قريتها قبل ذلك التاريخ، وقد كانت عينة من ناس كثيرين، كانوا يتصوروا حدود الكرة الأرضية أو الأرض، على بعد ما ترى عيونهم فقط، فكانوا عندما يلمحون تلالا رمادية تلتقي مع الأفق، يتهيأ لهم أن هناك حافة حادة تفضي الى المجهول .. لم يشغلوا بالهم كثيرا عن موجودات ما وراء الحافة ..

بعدما تيقن محمود من جلوس والدته العجوز في الركن الأيمن من المقعد الخلفي، دار من الباب الأيسر، فجلس الى جانبها، وفسح مجالا ليجلس شاب يافع في الركن الأيسر من المقعد الخلفي. كان السائق، الذي يضع (حطة) بيضاء على رأسه وثبتها بعقال رفيع، يميل برأسه يمينا ويعود بعد قليل ليميل به الى اليسار، وكأنه يريد إخبار الآخرين أنه ليس نموذجا من نماذج متحف الشمع، ولا أظن أن ذلك قد خطر بباله، لأنه لم يكن على علم بمتاحف الشمع.

توقف عند الباب الأيمن للمقعد الأمامي شخصان، تبدو عليهما إمارات العز (في ذلك الوقت) .. فقد كانا يرتديان (بدلتين ) مكويتين مع ربطتي عنق، وقد صففا شعريهما بطريقة متقدمة عما كان منتشرا في ذلك الوقت، وقد يكونا موظفين أو رجلي أعمال، ينويان السفر للخارج، كان لون بدلة أحدهما زرقاء غامقة ولون بدلة الآخر خضراء زيتية. حاولا تكريم بعضهما في الدخول، وقد يكون التكريم ناتجا عن تبييت النية لدى كليهما بالحظوة بالجلوس الى جانب الشباك. كان العطر الذي يضعه أحدهما يتفوق على العطر الذي يضعه الثاني، لكن العطرين اتحدا في رسالة موحدة، اندمجت عند وصولها لأنوف من يجلس في السيارة.

انطلقت السيارة عندما أدار السائق مفتاح محركها، لتنشر للحظات، موجة من رائحة البنزين التي تداخلت مع رائحة عطر من في المقعد الأمامي.

حاول السيد (صاحب البدلة الخضراء) والذي يجلس في الوسط، أن يشغل مذياع السيارة، وعندما فتحه صدر صوت (خشخشة) واضح، فأغلقه ثم أعاد تشغيله مرة أخرى.. ولكن الصوت المشَوَش لم ينقطع .. فالتفت الى صاحب البدلة الزرقاء على يمينه، وقال، إن سبب الخشخشة ناتج عن عدم إحكام وضع جهاز الراديو في مكانه بشكل جيد.. لو كان لدينا مسمارا (شعاريا) ( والمسمار الشعاري مسمار صغير جدا بطول 1أو 2سم رفيع، كان يستخدمه مصلحو الأحذية [الإسكافي] في عملهم) .. صمت وسأل صاحبه: ألا أجد معك مسمارا شعاريا؟ .. تفقد صاحبه جيوبه فأخرج مسمارا (شعاريا) .. فتناوله صاحب البدلة الخضراء ووضعه حيث أراد، فزالت الخشخشة من الراديو .. انفجر الشاب اليافع الذي يجلس خلف السائق من الضحك.. فرمقه كل من في السيارة بنظرات استغراب..

صدر صوت من أم محمود (العجوز) .. صوت مع تلوي في حركاتها، كالحالة التي تمر فيها النساء الحوامل في فترة (الوحام).. رغبة في التقيؤ، أنين، مسك لأسفل البطن، وضع اليد على الفم ..ولكن أم محمود قد عبرت سن اليأس منذ عقدين على الأقل، هذا ما أدركه السائق، الذي هدأ من سرعة السيارة، واتخذ أقصى اليمين في نية التوقف.. ثم سأل ابنها: هل تشكي الوالدة من شيء؟ ..
أجابه محمود: كلا .. كلا .. لا عليك، انطلق، فهذه أول مرة تخرج أمي من القرية..
لم تكن المسافة التي قطعها السائق تزيد عن خمسة عشر كيلومترا بعد، وأمامهم من الطريق ما يساوي خمسة أضعاف ما قطعوه .. همهم السائق، الذي خشي أن تلوث العجوز فرش سيارته، إن تقيأت، ولم يمنع خشيته ما أبقاه من غطاء من (النايلون) تضعه الشركات الصانعة على الفرش..

كانت نوبات التقيؤ عند العجوز، هي ما تقمع نوبات الرغبة في الضحك عند الشاب اليافع الذي لا زال يستحضر روح النكتة من المسمار الشعاري .. فكلما صعدت السيارة جبلا، عاودت العجوز في مناوراتها التي كان ابنها (محمود) يتعامل معها بانحناءة تجاهها، واضعا كيسا أحضره معه لتلك الغاية، على ما يبدو!

تضايق السائق، فوجه ملاحظات استنكاره لمحمود، الذي اعتذر، مبررا ما يحدث بسبب أن هذه أول تجربة لسفر والدته بالسيارات.. فأجاب السائق بحدة: وهل من الضروري أن تكون التجربة معي و في سيارتي؟ ألم يكن بإمكانك أن تدربها على السفر الى قرى مجاورة و مدن أقرب، بدلا من تأخذها في أول مشوار للعاصمة؟

كان هذا الحوار سببا إضافيا لعودة نوبات الضحك الصامت، لدى الشاب اليافع، التي كانت تتحول الى دموع نتيجة خنقه لعدم وجود من يشاركه فيه!

رغم طول المدة التي فصلت بين تلك الواقعة وهذه الأيام، فإنه عندما يتذكرها لا يستطيع أن يمنع نفسه من الضحك ..فكيف يوجه رجل وقور يلبس ملابس أنيقة ( ويتابع الأخبار!) سؤالا لصاحبه (الأفندي) (هل أجد معك مسمارا شعاريا؟) .. إن السؤال وحده مثير للضحك.. ولكن رد صاحبه بالإيجاب كان أكثر إثارة للضحك..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس