الحمدُ لله الذي أبانَ صبحَ الحق بوحيـِهِ ، فانقشعــتْ به ظُلُمات الباطل إنقشــاعـاً ، الذي يزيد من تمسّك بالذكر الحكيم سماعاً واتباعاً ، علواً وارتفاعــاً ، ويضع أهل الأهواء الذين أشربت قلوبُهم حبّ الدراهــم والمناصب فـي باطلهم اتّضاعـــاً ، كما قال سبحانه : " وكذلك نجزي المفتريــــــن " .
الذين يلبسوُن الحق بالباطل ، ويفتروُن على الله ورسوله ، ويكتمون الحق الذي جاء به رسوله ، ثــم ينهوْن عنه ، وينئوْن عنه نفــوراً ، قد ضـــرب عليهم الشيطان حجاب الغفلة ، وأقام عليهم سلطان الهوى ، يعدُهُم ، ويمنّيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً .
يقولون على الله بغير علــم ، ويدسّون في دينـه أخبث الســمّ ، قد أصيب بهم في هذا العصــر الإسلام ، صراط الله المستقيم ، فهم نكبته الشعواء ، وداهيته الدهياء
يزيّنون للناس بما ران على قلوبهم المرتكسة في ظلمة الشبهات ، ورجس الشهوات :
أن التفريق بين التوحيد والشرك ، والإسلام والكفر ، الذي هو أعظم ما جاءت به الرسل ، وأوّل واجب على العباد ، وأولى ما تصلح به البلاد ، وتندحر به جحافل الشر والفساد ، مناقض لوسطيّة الإسلام ، وأن الداعين إليه الذين هم أتباع الرسل حقا ، مخالفون لنهج الأمـّـة الوسط !
وأن الدعوة إلى تحكيم الشريعة في كل صغير وكبير ، وجليل وحقير ، ونبذ ما سواها ، والكفر بما عداها ، غلوّ ، وتهوّر ، وتنكّب عن الصراط الوسط !
وأن جهاد الغزاة الساعين في طمس ماضي الأمة ، وسلب حاضرها ، والقضاء على مستقبلها ، فساد وتخريب ينافي النهــج الوســـط !
وقــد قال الحق سبحانه " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا "
وياسبحان الله ، مابالهم عَمَدوا إلى ما فيه قوام هذا الدين ، فابتغوه عوجاً ، وإلى أصوله العظمى ، ومبانيه الكبرى ، فأثاروا عليها رهجــاً ، وقد جعلوا على مقصدهم هذا الخبيث زبرجــاً ، خداعا ومكر السيء ، ولايحيق المكر السيء إلا بأهله .
أيبتغون هدم هذه الأمة ، وتفريقها ، وتمزيقها ، وإفقادها أسباب بقائها ، وقوتها ، ووحدتها ؟!
أيسعون سعيا حثيثا في الحيلولة دون أن تسترد أمتنا مكانتها وبأسها ، وتعيد إنشاء حضارتها ، على أسس عقيدتها النقيـّة ، وشريعتها الطاهــرة ، وتأخذ في أسباب المجــد بالوحدة الإيمانية الجامعــة ، وترقى في مراقي العــز بالقوة الضاربة المانعــة ؟!
وعجيبٌ أمرهم غاية العجب ، وغريبٌ نشاطهم هذا المفاجيء المحموم ، الذي لايكلّ ولايملّ ، في الحديث عن هذه "الوسطيـّة" ، المصروفة عن معناها الحق ، في عبثٍ غــثّ ، انحدر علينا سيلُه فجأة بقدر هائل من المراوغة ، والتحايل ، واللتّ والعجن للنصوص الشرعية .
وأعجب من ذلك ، صرامتُهُم بعــزمٍ صلدٍ حديد ، وحماسهم الذي عن اليمين وعن الشمال قعيــد، كأن هذه القضية نازلة الإسلام الكبرى التي تبديء وتعيد ، بينما هم في إعراض تام ـ أو يكاد يكون ـ عن مصاب الإسلام ، فلم يعقدوا أيّ مؤتمر عام عن الحركة الصهيونية وأهدافهــا ، أو خطط الصليبية العالمية ، أو ندوات تناقش سبيل تحرير بلاد الإسلام ، وأحوال المسلمين في البلاد المحتلة ، وتفضح مكايد أعداء الدين !
غير أن نهاية هذا العبــث الملبّس كغيره ، بادية واضحة ، إلى شر غاية يمضي ، وإلى عاقبــة أسوء مكر يسعى ، وإلى أخـسّ موضع ينحــطّ .
ولكــن ياللأسى .. بينما تئنّ أمّتنا تحت وطأة إحتلال ، يَبتغي فيها أخبث ما يبتغيه عدوّ في عدوّه ، وما يخططه لها أشد فتكا مما فعله حتى الآن ، وعلى ما يبدو لكلّ ذي عينين ، أنـّه لم يدّخـر شيئـا من المكر ، والدس ، والتخابث في الخفاء في كلّ بلاد الإسلام التي علا عليها، ومن اقتراف الجرائم في العلن ، فيما اجتاحته جيوشه البربرية من أصقاع الإسلام ، غير أن ما تخفي صدورهم أكبر ، كمـا قال الحق سبحانه في محكم التنزيل.
وياللحســرة .. بينما هذه الأمـّة المبتلاة بتداعي الأمَم عليها ، كمـا لم يحدث مثلـه كما وكيفا في تاريخها ، تحت راية أشد الناس عداوة لها ، اليهود وأولياءهم ،
يُراد لهـــــا :
أن يتحوّل دينها الذي هو عصمة أمرها ، وروحها التي بها وجودهــا ، وقلبها النابض الذي به حياتهـا وبقاؤها ، وجهها الحضاري الأعظــم .
إلى صورة جديدة من العقيدة المخلوطة من "الصهيوصليبية" و " المادية الإلحادية" ، تنحرف بها مــن التوحيد إلى دركات الكفر والشــرك .
وصورة جديدة من الشريعة اللاّدينية تهوي بها في مهاوي الضلال والشقاء .
وصورة جديدة من الحياة البهيميـّة ، التي تعبد ظاهر الحياة الدنيا : المادة ، والمنفعة ، واللذة ، كهيئة الأنعام بل أضل سبيلا .
تحت شعارات كاذبة مــن الحرية ، والإصلاح ، وحقوق الإنسان ، ممزوجة بدماء واشلاء ضحايا الصواريخ ، والدبابات ، والقصف العشوائي كلّ يوم في المسلمين!
وواأسفاه .. بينما هي في أمس الحاجة إلى الصدع بالحق المجاهــر بهـدي النبوّة المستبين ، وشمـس الوحي المبين ، وسطوة الحق الساطع بنور القرآن ، المؤيّد بسواعد الشجعان الضاربة بقوة السنان ، لحماية جناب التوحيد ، ومقام الشريعة ، وقلعة الجهاد ، وحصن الولاء والبراء الذي يميّز الأمّة بعقيدتها وشريعتها ، عن ظلمات الشرك ، وسبيل الضلالة .
بينما هذا حالها لايخفى على قريب أو بعيــد ، أحدثوا لهــــا هذه الأحدوثة ، من التلبيس بتحريف الكلم عن مواضعه ، بوضع هذا الوصف الشريف ، لهذه الأمة العظيمة ، " الوسطية " في غير معناه الحق ، ليوافق أهواء الزعماء الخاضعة أعناقهم لفرعون العصـر .
هذا كل ما استطاعوا أن يقدّموه لأمّتنا الجريحة في محنتها ، وهي تعاني ما تعانيه من التدمير ، والهدم ، والدسائس ، والظلم ، والقهــر ، والإحتلال ، والاستبداد.
فكلما قال قائل بالحق ، أو قائم قائم بالقسط ، أو ذب مجاهد عن دين الأمة مبتغياً عزّها ، وعن اعراض المسلمين ، وأوطانهم ، رموه بالخروج عن " الوسطية" .
وأنت إذا تأملت ما يزمزمون به حول هذه الكلمة ، تبين لك أنهم يرمون إلى جعلها بمعنى العدول عن كل ما يسخط المستعمرين والمستبدين ، إلى ما يرضيهم ، فكأنهم جعلوها بمعنى أن تكون الأمّة في تيــه :
وسطا بين إيمانها ، والكفر .
وبين شريعتها ، وشريعة الطاغوت .
وبين هدي نبيها صلى الله عليه وسلم ، وضلالات المتهوّكيــن .
حتى إذا نزعت عنها ثوب الحريـّة الحقـّـة الذي ألبسها الإيمان ، ورداء العزّة الذي كساها الإسلام ، تحوّلت إلى مسخ مذلّل تحت أقدام طغاة العصر ، وسقطت في رقّ عدوّ شديد العداوة ، ماكر شديد المكر ، قد ملك من الخبرة في هدم الأمم ، وردها القهقرى ، ما شابه فيه أبليس نفسه .
كما يتبيـّن لك أنهم يدندنون حول تفريغ هذه الكلمة ، من معناها الحق الذي مـا استحقّت أن يصف الله تعالى به هذه الأمـّـة ، إلا بعـدمــا عزّت :
بالتمسّك بدينها ، وتميّزت به ، فَعَلَت على من سواها من أمم الضلال ، لاسيما أمتي الغضب والضلال .
ولمّا قامت بالجهاد ، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر .
ولايخفــى أن الله تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمّة أمـّة وسطا ، فجعله وصفا منه ، أضفاه عليها ، ممتنـاً به عليهــا، ولـــم يأت بصيغــة الأمر .
بينما لما جاء شأن تحميلها الأمانة ، أمانة العقيدة التي هي ميراث الرسل ، والشريعة التي هي منهاج خاتم الرسل ، وشأن الجهاد ، جهاد الكافّة ، ليدخلوا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كافّة ، او يذعنوا لهيمنتها ، لما جاء هذا الشأن ، أمرها بذلك ، وحذرها أن تتقاعس عنــه ، أنها ستُسلب حينئــذ وصف الخيّرية ، وتبوء بالغضب كما باء به من قبلها .
قال الحق سبحانه : " إِلاّتَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاتَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
|