(2)
كانت (صيتة) وهي تطلب من زوجها (زعل) أن يبني غرفتين من (الباطون ) على غرار ما فعله دار خالها، تريد أن تمتحن (غلاوتها) عند (زعل)، وتريد أن تسمع ابنها محمود أنها تقف الى صفه في تهيئة أمور زواجه، علها تكسب وده ويوافقها على الزواج من ابنة أختها..
لم يطعها (زَعَل) في البداية، ولكنه أذعن في نهاية الأمر، دون أن يفصح عن إذعانه، فقد كان يشغل باله أمور كثيرة، من بينها الكلفة التي سيدفعها لإنجاز هذا البناء، ومن سيقوم بالبناء وأين سيبني الغرفتين، وهل هو فعلا يحب القيام بهذا العمل؟ سلسلة من الأسئلة والتساؤلات لم تكن لتبرز لولا ذلك الطريق اللعين الذي استفز عقل القرية للانشغال بعشرات القضايا التي لم تكن لتظهر بدونه ..
ما كان بناء غرفة في السابق يكلف شيئا غير جهد أهل الدار وجهد حميرهم التي تنقل الحجارة والتراب، مع بعض معاونة الجيران التي كانت بمثابة (تسليف) سيحين وقت سداده في مناسبة مثيلة عندهم .. أما غرفتان من (الباطون) ستحتاج لشراء الإسمنت والحديد والحصى وأسلاك التربيط والمسامير وكلها كانت تقع في قوائم سلع الرفاهية فيما مضى .. ولكنها اليوم أصبحت شرا لا بد منه ..
خرج (زعل) من بيته ليجمع معلومات عن الكيفية التي سينفذ بها بناء الغرفتين، ولم يكن هناك عنوان بعينه سيذهب إليه، فلم يكن هناك مكاتب هندسية أو نقابات لعمال البناء .. لذلك استعان بصديق له كان قد سبقه في بناء غرفة في صدر الدار .. فرح صديقه بتلك الحظوة التي حظاه بها (زعل)، فستكون مادة للحديث لمدة أسابيع مع أفراد عائلته بأن هناك من راجعه طالبا المعونة في شيء!
قرفص صديقه وتناول شظية من حجر وأخذ يخط على التراب خطوطا ليست مستقيمة بما فيه الكفاية فكانت تظهر لمن لا يعرف عن سبب جلوس الصديقين أنهما يرسمان نظارات للعيون أو (صدرية ملابس امرأة) .. وكون الناس لم يكونوا قد تعرفوا جيدا على هذين النموذجين (للمقارنة) .. فقد كانوا يتجمعون بحلقات حول (دافنشي) الذي يخط على الأرض مخطط بناء غرفتي (زعل) .. كان من السهولة على صديق زعل أن يمسح الخطوط المحفورة في التراب، ليعيد رسمها من جديد .. فقد أثاره تحلق الناس حوله، فتمتع بفكرة أن يبدو كخبير في رسم مخططات الأبنية!
لم تشفع مخططات صديق زعل في تحويل المشروع لحقيقة، فقد نصحه في النهاية بالتوجه لصالح الذي بنا له غرفته .. جاء صالح وسأل عدة أسئلة وكان قد عمل مع مقاولين في (النقطة الرابعة H4) فتعلم ممن تعلم كيفية تنفيذ بعض أعمال البناء .. وصى زعل بإحضار المواد المطلوبة .. وأشر له مكان أسس البناء .. فبادر زعل بحفرها دون الاستعانة بأجراء ..
كان زعل يتدخل في كل شيء حتى يقلل كلفة البناء على نفسه، فلم يرغب أن يوضع بالأسس أي جزء من (الإسمنت) فيكفي وضع بعض الحجارة والطين .. وكان يقوم بقطع أسلاك التربيط بعد أن تفك الأخشاب عنها، وكان يقوم بتصحيح وضع المسامير المنحنية إثر استخراجها من الخشب، ويطلب من صالح إعادة استخدام تلك المواد مرة أخرى ..
لم ترق له فكرة بقاء النوافذ مفتوحة فأغلقها بطوب من طين .. كانت الغرفتان قبيحتا المنظر، ولكنهما بنفس الوقت كانتا مصدرا لمفاخرة زعل بأنه من أوائل من شيد هذا النمط من البناء في قريته (العتيقة) ..
في محاولات تهجين الإنسان للنحل البري، حيث يأتي بكيس من قماش، ويلفه حول غصن شجرة تجمًع عليه طرد من خلية نحل نفرت من مكانها والتهمت ما في داخله من عسل، حتى أصبحت حركتها بطيئة، فيأخذها الإنسان الذي لا يضيع فرصة في استثمار ما تهبه الأرض من خيراتها، ويحبس النحل في صندوق خشبي تعلم القساوسة أبعاد عيونه السداسية، فأصبحت خلايا النحل تصنع بشكل وكأنها شقق (مفروشة) لاستقبال النحل .. ولأن النحل لا يحب إلا الطبيعة، فإن الإنسان سيبتدع طرقا لاستئناسه وترويضه وتطويعه ليصنع العسل له، مقابل تقديم هذا السكن المريح .. وكيف لا؟ ألم يستطع الإنسان ترويض الأسود والأفيال و جعلها ترقص على خشبة المسرح، وإن كانت تلك الحيوانات لا تنسى أن تبدي ما يذكر من يتفرج عليها بأنها حيوانات مفترسة، فبعد أن يقدم الأسد نمرته لا ينسى أن يقطب جبينه ويظهر أنيابه بحركة استعراضية غير مخيفة!
إن أصعب المهام التي يواجهها الإنسان في ترويض الكائنات الحية، هي ترويضه لنفسه، فمن كان يتعايش مع الألوان الرمادية من أثر الدخان الصادر من المواقد البدائية سيبقى يحن إليها حتى لو سكن في أبهى القصور وعاش بين أرقى الحضارات، وهذا يحدث مع من يعيش في الغرب يعاشر الموائد وسكاكينها و شوكات طعامها، ما أن يوضع في جو قديم، حتى يرفع ردن يمينه ويستعمل يده في تمزيق رأس خروف أو ورك شاه، وكأنه لم يغب لنصف قرن بين الشوكات والسكاكين ..
كان زعل ينظر الى الغرفتين نظرة أبهة واحتقار في نفس الوقت .. كانوا نادرا ما يلجون الغرفتين .. ولكنهم صفوا بها بعض الفرشات ووضعوا عليها بعض الوسائد انتظارا لإنجاز مراسم زواج ابنهم .. ولكن (صيتة) لا تنسى إذا أتتها إحدى قريباتها أو جاراتها أن تصطحبها الى المتحف الجديد لتتفرج الجارة على هذا المقترح الجديد .. ولتصبح الزائرة مندوبة مبيعات أو مروجة لهذا النمط المستحدث في القرية ..
في الحقل الزراعي تلجأ الدول لعمل حقل إيضاح في كل قرية تزرع فيه نوعا من المزروعات على الطريقة الحديثة. فإن كانت أشجارا، فتكون خطوط الأشجار مستقيمة ونمط تربيتها واضحا وأثر السماد وطرق الري واضحة .. فيستقدمون القادة الريفيين من الفلاحين ليطلعوا على حقلهم الإيضاحي ليتعلموا منهم وينقلوا ما رأوه الى بساتينهم وحقولهم .. ولم تنس الدولة المهتمة في نشر تلك الوسائل أن تكرم هؤلاء القادة بتقديم وجبات مجانية أو تقديم الحلويات والشراب ..
كذلك كانت (صيتة) تقوم بدور المرشد لحقل الإيضاح، ولم تنس ـ بطبيعة الحال ـ تقديم ما يكرم ضيفاتها ..
__________________
ابن حوران
|