أخي وأستاذي سامي
كم وجدتني أتشاغل عن الكتابة إليك حول نقدك لهذه القصيدة، مع أن أشد افتقادي لك كان ساعة مرت ببالي أبياتها الأُول. إن من أسباب ترددي اللغةَ التي تقتضيها مخاطبة حكيم بليغ مثلك، ولَلشعر الذي يهبط ويسلس، وفيه مهارب من تعميم وتمثيل وتهويم أسهل من النثر الذي يتطلب كد الذهن وترتيب الأفكار وتلافي العثرات محكوما بالضبط والوعي وقلة الأعذار لما يرتكب فيه من أخطاء.
---كثيرا ما يستعمل تعبير مخاض القصيدة، وفي هذا ما يتعدى التشابه العابر أو المجاز المقتصر على لحظة أو مرحلة بعينها. إن التشابه يبدأ بدخول بذرة ما أو تراكم بذور من التجارب أو التجربة التي تؤثر في الشاعر ثم اختمارها في وقت يطول أو يقصر حتى تحين لحظة يطل فيها مطلع القصيدة، وقد يكون هذا بيتا أو بيتين أو بضعة أبيات، وكما أن رأس المولود هو الأهم في جسمه وفيه وجهه وهو الأدل عليه، وكما يتبع الرأسَ سائرُ الجسم، فكذلك مطلع القصيدة بالنسبة لسائر أبياتها هو الأصعب وفيه المعاناة، فما إن يأتي حتى تتوالى الأفكار والمشاعر والكلمات في اتساق ليس فيه كبير جهد، ولهذا أجد المطلع يحدد إطار القصيدة وشخصيتها على الأقل فيما يخصني. واوضح مثالين هذه القصيدة، والقصيدة الأخرى التي مطلعها
يا أيـكة قـد أظلتني بوارفها ............. وللتليـد مضى أومـت بطارفها
أتيتها وهجير الصيفِ يلفحني............فأخْضلَتني ندى ريّا مشارفــها
وقد قلت هذين البيتين في ظرف معين ولبثا على لساني أياما ثم جاء اعتزال أخي مجدي للخيمة ولي فأثر في نفسى وكان الحمع العجيب بين تجربتين ليعطي هذه القصيدة.
----والقصيدة التي نحن بصددها لا تختلف كثيرا عن تلك في مراحلها وإن كانت فترة كمونها أطول، وجاء وعيي عليها محتواها تدريجيا وترجم في الأبيات الخمسة الأول، ولم أقصد أن تأتي كلها مترابطة فيما يسمى بالتضمين الذي يترابط فيه بناء الأبيات معنى ونحوا، وهنا أجيبك عن فاعل (يرتمي) في قافية البيت الثاني، إنه كلمة (حرفٌ ) في البيت الذي يليه.وقد جاءت هذه الأبيات الخمسة مرة واحدة ثم تتالت الأبيات فيما بعد.
وكم ذكرتك لأن هذه القصيدة لم تكن نظما بل كانت شعرا، وكان تصنيعي لألفاظها أو معانيها في أضيق الحدود، ولم يكن أي تصنيع في خمستها الأول.
والذي جعلني أذكرك فيها أكثر من سواها أن النفس كانت في حالة من الإطلال على أمور ومعاني ومشاعر شتى . وهنا يطيب لي أن أرجع إلى قولك مشيرا إلى البيتين الأخيرين : " إذن التساؤل فالهواجس فالطلاسم فالجرح فالدواء كلها تقبع جميعا بين بعدين اثنين بلا مساحة بينهما ألا وهما الهذيان والحلم" هذه الدلالة للبيتين صحيحة، ولكن صحتها في البيتين شيء، وصحة تمثيل البيتين للقصيدة شيء آخر، ففي حين لا يراودني شكك في انهما تمثلان ما تفضلت به، أجد نفسي متسائلا أليس الهذيان والحلم ضلعين كبيرين في مثلث ضلعه الثالث وقد يكون الصغر شيء من الواقع المتفاعل مع الخيال وهنا أجدد للخيال نكهة مغايرة للحلم، فإن كان هذا صحيحا فإن هناك مساحة في القصيدة، ربما لا تبدو واضحة للناظر من بعيد، وربما تكون خلاصة آخر بيتين تمثل الضلعين الأكبر في المثلث اللذين يبدوان فيها بفعل الإيجاز الذي هو أقرب لتصغير الصورة متطابقين يخفيان ما بينهما من مساحة.بل ما ذا لو وضعنا هذين الضلعين تحت المجهر -أو العدسات، وها هي عدواكما أنت وميموزا في النقد ومصطلحاته تتسلل إلى لغتي- هل هما خطان بسيطان أم أن كلا منهما يخالطه سواه، أليس من الممكن أن يكون هذا الحلم متشابكا مع شيء ولو متواضع من الأمل، والهذيان هل كان هذيان هلوسة؟، أم من نوع آخر؟، وإن كان من نوع آخر فما الذي خالطه فميزه عن الهلوسة؟
---- لقد أخذني الاستطراد عما يليق من واجب التحية، واسمح لي أن اعبر عن اعتزازي وتشرفي وشكري لاختيارك قصيدة لي مادة للنقد والتحليل، وأسأل هل هما ذات الشيء م هنالك فارق؟ وأجتهد بالقول إن ما تفضلت به يغلب عليه التحليل، فهل أنا محق؟. وأي تحليل هذا؟ إنه ليس تحليلا أدبيا فحسب ولكنه قبل ذلك ومعه رحلة في نفس وفي شعاب متعرجة لا يكاد صاحبها يتبينها بل لعله ينبهر وهو يراها تصور أمامه كالمريض الذي يرى صورته أمام جهاز المسح. وعودة إلى مادة التحليل. فقد أضحكني قولك هب أن شاعرنا كان كابي العلاء إذ أني كنت لفترة كنصف أبي العلاء، فهل هذا داخل في مهارات التحليل كذلك؟
يبهرني في كلامك هذا البناء المعماري الذي تضع مخططه أمامك هذا المخطط الذي يهتم برسم طريق الدخول والخروج اهتمامه للمبنى ذاته، والذي يمضي في دروبه دون تردد فهو الذي رسمه مسبقا، ثم تروح في سلوك ممراته وصولا إلى غرفه وقد تعرج على ركن فتضيئه وإن لزم تكبير صورة جزء ما كبرتها. ولكن ألا يمكن أن تؤدي الثقة الكبيرة بالمخطط إلى إغفال الفرق بينه وبين الواقع، وهو ليس فارقا كبيرا على أي حال. ولكنه قد يكون مهما في ركنه المحدود وإن لم يؤثر على المبتى ككل. فالقول مثلا :" كانت تلك ترجمة لخلجات ذهن ولا أقول قلب " ألا يمكن أن يكون النعبير أدق لو قلت :" كانت تلك نتيجة لمحصلة حوار بين خلجات ذهن وخفقات قلب رجح فيه جانب الذهن "، فهل لو كان الأمر مجرد ذهن فحسب كانت ستكون هناك قصيدة أصلا ؟ إننا هنا أمام مخطط يتطلب خطوطا مستقيمة تظهر التصور العام أكثر مما نحن أمام واقع يتطلب استقصاء تعاريجه وزواياه أكثر مما تبرره الفائدة العملية لذلك. لم أكن أعي تراكم الألفاظ الدالة على المناخ فضلا عن دلالتها، وتتبعك لهذا الحوار الداخلي مثير وأجدني أحيانا حيال بعضه كمن نوم مغناطيسيا فسجلوا له ثم أسمعوه تسجيله بعد يقظته فذكر واندهش وربما شفي أو انتكس. ثم هذا التفريق بين الداء والجرح إنه أكثر من رائع. وهذا الأسلوب الراقي واللغة الباذخة معنى ومبنى وكم توقفت عند قولك : " ليسقينا من سلاف عصير فكره" أليس هذا هو الشعر صورة ولفظا ووقعا، فرحت أردد :" من سلاف عصير فكره" ووزنها (فاعلاتُكَ فاعلاتن) فقلت أنظم عليها لأرى إيقاعها فقلت
من سلافِ عصير فكرِكْ --- حِرْتُ في ثَبَجٍ ببحركْ
إن نقدكَ يا أخانا --- قد علا كسموِّ قدرك
ما به أنا في انبهارٍ --- درَّ درُّكَ كيفَ تُدرِكْ
تقمصت شخصيتك وسألت نفسي هل لترابط أبيات المطلع من دلاله؟
والله يحفظك ويبقيك وينفعنا بك يا أخي وأستاذي سامي.
ولا أنسى توجيه شكري لأختي واستاذتي ميموزا التي استقلت بالعبء في غيابك.
|