أنا لا أدعي فهماً للموسيقى الكلاسيكية ، ولا أهز رأسي طرباً لها كأخينافي موضوع هل تفهم في الموسيقى الكلاسيكية ، لكنني بالتأكيد أتذوقها ، أرتاح لسماعها ، وأشعر أنها تسير بي في ظلال الطبيعة متصاعدة هابطة. وكذلك أتذوق الموسيقى الصينية ، أشعر فيها بحزن شرقي ، وإن كنت ألمس ما تقوله من أنها نسيج آخر مما لا يمكن في الموسيقى العربية ً- تبعاً لاصطلاحك فيها-.
عندما أطلع إلى نتاجات فنية ، سواء كانت موسيقى ، شعرا ،ً رسماً، من ثقافات أخرى ، أبقى ابناً لثقافتي وحضارتي الغنية ، أعتز بها ، وأشعر بأن الفن تراث إنساني ، تسهم فيه الشعوب بحظوظ مختلفة ، وأباهي أن لحضارتي الإسلامية القدح المعلى في مختلف الميادين.
تبرز المشكلة عندما ينبهر المرء بثقافة أخرى ، ويشعر بالتصاغر أمامها ، فيأخذ بالتقليدالممجوج ، أو يحاول أن يلبس حضارته ثوباً آخر لا يناسبها ، فيأتي النتاج مشوهاً ، لا هو يرقى إلى الثقافة المقلدة - بفتح اللام - ، ولا هو يُبقى على مواطن الجمال في حضارته ، بل ربما يأتي على ثوابتها.
تعرضت الحضارة الإسلامية لانتكاسات ، بقيت آثارها إلى اليوم ، لأسباب كهذه ، فانبهار المسلمين بالفلسفة اليونانية أدخل مسائل فلسفية على العقيدة الإسلامية ، حولت نقاءها إلى جدل عقيم ، في ما يعرف بعلم الكلام ، وما أدل اسم هذا العلم عليه! بل أدت إلى انحرافات عقدية عند فلاسفة كبار كابن سينا والفارابي ، في محاولتهم أن يلبسوا الإسلام فلسفة أفلاطون.
وفي الأدب العربي عرفنا صورة أخرى في العصر الحديث ، تجلت في بعض شعر الحداثة وما بعد الحداثة ، فأنت تقرأ تهويمات لا معنى لها ، ولا تستطيع فهم نص أدبي لبعض الشعراء كأدونيس وغيره دون أن تحفظ أسماء كل آلهة اليونان ، وأبطال الأساطير التي هي قصص شعوب حاولت بها تفسير الحياة ، فغرقت في لجج التيه.
هذا من جهة ، من جهة أخرى فإن المبدع المتمكن من ثقافته وحضارته ، عندما يقرأ الثقافات الأخرى ، فإن ذلك يزيده ثراء ، وكما أشرت سابقاً باعتبار الفن تراثاً إنسانياً ، يدرك تميز ثقافته أولاً ، ثم ما يجعل الثقافة الأخرى متميزة فيأخذ منها ما يتناسب ونظمه ، وينشئ ألواناً جديدة ، هي في الحقيقة ما يجعل الحضارة كائناً متجدداً ، يستحق البقاء.
في مجال الفلسفة التي مثلت لها سابقاً يبرز فلاسفة مسلمون كالغزالي ، وابن تيمية ، وهؤلاء عرفوا جوانب القوة في الفلسفة اليونانية ، وتهافتها كما يقول الغزالي في مناح أخرى ، وأخرجوا ما يمكن أن يطلق عليه الفلسفة الإسلامية ، التي تنبع من ثوابت العقيدة ، وتخاطب العقل بالمنطق اليوناني البارع.
وفي الأدب يبرز لنا تجربتان ، أثرتا الأدب العربي أيما إثراء هما الأدب الأندلسي وأدب المهجر ، وبالتأكيد لم تخل الحداثة من محاسن ، تبرز في قراءاتنا لشعراء كالسياب ومظفر النواب ، ففي مثل هذه الحالات ظهرت صور جديدة من الأوزان وموسيقى النص ، وكذلك الصور الفنية والأدبية ، التي أصبحت الآن إرثاً عربياً ، يضاف إلى تراث هذه الأمة المجيد.
أشكر لك إثراءك الساحة بمشاركتيك المتميزتين ، وأشكر لأخي عمر تلخيصه الدقيق ، وقراءته العميقة لهما، وإلى مزيد من الحوار الغني الممتع.
|