حدثني الصمصام، قال:
لما قفلت من الحج فيمن قفل، وكنا قد نبذنا الجدَّ بالهزل، وتجاذبنا أطراف الحديث، من بعد مسير على الرَكوبِ حثيث، أقبل علينا
شيخ وقور، تفوح منه ريح البخور، قد عفـّر السيرُ ثوبَه، وجعد الدهر وجهه، وكانت قد ابيضت لحيته، ونصعت قرعته، تـُرى
عليه بذاذة، ويرى الخـَصاصَ(1) ملاذة، فجلس الشيخ بقرب النار، وأخذ يتفحص الدار، يطيل النظر في كل باب وجدار، ثمّ رأى
خنفساءة تسعى على وجهها، أشغلت العالم بهمّها، تهرُبُ من قِط أليف، اشتغل بها عن اللحم والرغيف، فانتفض الشيخ: صاح ِ
اعتبار، للصبر في المصيبات ثمار، ها أنا اليوم أعطيك العِبر، تكفيك عن مدّ البصر، أترى القطّ إذ زمجر، يحسب نفسه من الكون
أكبر، يتحكم في الخنافس، يُسِـرُّ السعد والوجه عابس، أترى لو لم يكن رب البيت حكـّمه، فلا يرى خنفسا إلا أعدمه، أيكون هذا
القطّ الحقير، في البيت الكبير، لولا أن الراعي خان الرعية، وساس في الخلق الأذية؟
فانقلب الشيخ إلى ركن من البيت بعيد، وتغمّر بلحاف بليد، وهمهم قليلا، ثم أنشأ يقول:
هي الخلافة لا تبقي ولا تذرُ
...................... من ظالم ٍ بشرا إلا ويعتذرُ
هي الخلافة تشفي القرحَ طلعتها
................... كأن بهجتها الياقوتُ والدررُ
يا ساكب الراح هبني من خلافتها (2)
................... فإن رشفتها تنسيك ما الكدرُ
ريمٌ إذا خطرت، شمسٌ إذا ظهرت
.......... مزنٌ إذا مطرت، في بعدها الخطرُ
ثم تخافتت أنفاسه، وأوتْ إلى النوم أجراسه.
وشدني الفضول، والقلب العجول، لأعرف سرّ شيخنا الذي أتى من البدو، يمشي الهوينا لا حثٌّ ولا عدو، أصاب دارنا، وما
أصاب نارنا، أكلنا الطعام، وعلى الجوع نام، في عينه دمعة، وفي قلبه رِفعة، فتزاحفت قدماي نحو مكانه، علـّي أجد ما كان في
أوطانه، فرفعت عنه اللحاف، فإذا هو شيخنا السلاف.
(1) الخـَصاص: الفقر.
(2) يقصد سلافتها.
|