عرض مشاركة مفردة
  #7  
قديم 15-08-2001, 07:08 PM
صالح عبد الرحمن صالح عبد الرحمن غير متصل
عضوية غير مفعلة
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2001
المشاركات: 192
Post

خامسا- أما الأمثلة التي أوردتها لاثبات أن التفكير يمكن أن يحصل في غير الواقع المحسوس فلا يصلح أي منها لاثبات ذلك، وبيان ذلك كما يلي :

اللفظة او الكلمة سواء أكانت مكتوبة أم كانت مسموعة هي واقع محسوس، فالتفكير فيها هو تفكير في واقع محسوس، فإذا سألت مثلا عن معنى كلمة الخلافة أو عن معنى كلمة ولي أو سألت عن معنى كلمة عدم فإن هذه الكلمات تنقل بواسطة الحواس الى الدماغ، وفي الدماغ يرتبط واقع الكلمة بالمعلومات السابقة التي تفسرها فيصدر الدماغ حكمه عليها، فالتفكير جرى في واقع محسوس هو الكلمة ، والحكم الذي صدر قد صدر على هذا الواقع المحسوس. فسواء أكان المعنى له واقع محسوس أم لا فإن التفكير لم يجر في المعنى وكذلك الحكم لم يصدر على المعنى وإنما التفكير قد جرى في الكلمة والحكم قد صدر عليها.


أما التفكير في المعاني فإن قولك " والمعاني ليست من المحسوسات " هو نفي للحس عن كل المعاني، وهذا خطأ. والظاهر أنك تخلط بين الواقع المحسوس وبين الواقع الملموس، فكأنك تعتقد أن الواقع المحسوس هو الواقع المادي الملموس ، ولما كانت المعاني ليست ملموسة قلت أنها ليست محسوسة. مع ان الواقع خلاف ذلك فليس كل ما يحس يلمس وان كان كل ما يلمس يحس، بمعنى أن كل واقع ملموس هو واقع محسوس، ولكن ليس كل واقع محسوس هو واقع ملموس، لأن اللمس محصور بحاسة اللمس فقط، فمثلا الظلم يحس ولا يلمس، والفخر يحس ولا يلمس والشجاعة تحس ولا تلمس والعزة تحس ولا تلمس والخزي والعار يحس ولا يلمس والاهانة تحس ولا تلمس، وعظمة الله تعالى تحس ولا تلمس ، والعجز والاحتياج اليه سبحانه وتعالى يحس ولا يلمس، وهكذا جميع الأمور المعنوية والروحية تحس ولا تلمس، وأما الأشياء المادية فإنها تحس وتلمس كالرغيف يحس ويلمس والماء يحس ويلمس والتراب يحس ويلمس، فالمقصود بالواقع المحسوس ليس هو الأشياء المادية الملموسة فقط بل كل ما يحس. فالتفكير في جميع هذه المعاني هو تفكير فيما يحس .


واما التفكير في المعاني التي ليس لها واقع محسوس كمعنى العدم فمستحيل. لأن الواقع شرط في التفكير. فالعقل لا يمكن أن يدرك حقيقة العدم وان كان للعدم معنى معينا في الذهن . والظاهر أنك تخلط بين تصور الذهن لمعنى العدم وبين ادراك العقل لواقع العدم. فلفظة العدم لم توضع لغة للتعبير عن واقع العدم وانما وضعت للتعبير عن المعنى الذهني للعدم، ومن هنا كان هناك فرقا بين اللغة والفكر، إذ اللغة هي الألفاظ الموضوعة للتعبير عن المعاني الموجودة في الذهن بقطع النظر عن الواقع، وأما الفكر فهو الحكم على الواقع، واللفظ لم يوضع للدلالة على حقيقة الواقع ولا على الحكم عليه ، بل وضع للتعبير عما في الذهن سواء طابق الواقع ام خالفه، فاللفظ للمعاني الذهنية الداخلية لا الخارجية بينما الفكر هو الحكم على الواقع. فتصور المعنى الذي وضع له اللفظ ليس معناه ادراك الواقع الخارجي للمعنى وانما معناه استحضار الصورة الذهنية التي وضع اللفظ لها، ولذلك إذا اطلق اللفظ استحضر الذهن الصورة التي وضع لها سواء اكان لهذه الصورة واقع محسوس في الخارج ام لا. وهذا ليس فكرا ولا تفكيرا وإنما هو استحضار للصورة الذهنية التي وضع اللفظ لها. فإذا كان لهذا المعنى واقع خارجي محسوس وأدركه الشخص فإن هذا الادراك يكون فكرا، والتفكير في واقع المعنى يكون تفكيرا.
فمثلا اليك هذا النص : ( سرت على سطح البحر ماشيا كما امشي على الطريق حتى تعبت قدماي، ثم حركت يداي كحركة جناحي الطير ، فطرت كما تطير الطيور، فعزمت أن اصل الى القمر فوصلته مع بزوغ الفجر، استقبلني اهله بحفاوة بالغة، انقضى شهر كانه يوم ثم عدت كما تعود الطيور المهاجرة الا اوطانها). هذا كلام له معنى ويمكن شرحه وتفسيره وكل انسان يستطيع أن يتصور المعنى الموجود في هذا النص. لكن مع ذلك فإن هذا النص ليس فكرا أي ليس هو نتاج العقل وإنما هو نتاج المخيلة أي هو تخيل واوهام أو هذيان أو احلام اليقظة كما يقولون ، وذلك لأن المعنى لا واقع له . فكون القارىء أو السامع لهذا النص يستطيع استحضار الصور الذهنية للألفاظ التي صيغ بها هذا النص لا يعني أنه قد أدرك واقعه، فالتفكير في معنى هذا النص ليس فكرا ولا تفكيرا .
وبناء عليه فإن الصورة الذهنية للعدم ليست فكرا ، والذهن إنما يستحضر هذه الصورة عند اطلاق لفظة العدم أو عند سماعها، وهذا ليس فكرا ولا تفكيرا، أي ليس هو ادراكا عقليا للعدم . وأما ايماننا بأن الأشياء قد خلقها الله سبحانه وتعالى من عدم فليس ناتجا عن احساسنا بواقع العدم أو من التفكير بالعدم، وإنما من التفكير بواقع محسوس هو واقع الكون والانسان والحياة ، فقد أدرك العقل عجز المخلوقات واحتياجها الى غيرها، فأدرك ان لها بداية أي أنها وجدت بعد أن لم تكن أي بعد أن كانت عدما. فالتفكير هو تفكير في واقع محسوس هو الكون والانسان والحياة والحكم قد صدر على هذا الواقع المحسوس وليس على العدم.


وأما قولك ان العقل يدرك أن الأعداد لا نهاية لها ، فمن المعلوم بداهة أن كل ما سوى الله تعالى محدود، الأعداد وغير الأعداد، والقول بأن الأعداد لانهائية مصطلح رياضي وليس هو وصفا حقيقيا، فمثلا العدد بين رقمين هو عدد لا نهائي مع أنه محدود لأنه يقع بين رقمين . فعدم قدرتنا على عد الأعداد لا يعني أن لا نهاية لها. ومن المسلمات العقلية أن ما له بداية له نهاية. ومن المسلمات العقلية أيضا أن مجموع المحدودات محدود. وأيضا الأعداد ليست شيئا قائما بذاته ، بمعنى أن العدد يقترن بأمور وأشياء فتقول مثلا عدد السكان كذا أو عدد الطلاب كذا أو عدد أكياس الطحين كذا، وكل ما يقترن به العدد محدود فلا يوجد شيء عدده غير محدود لأن كل شيء ما سوى الله تعالى محدود.
وهنا أود لفت النظر بأن الحكم على الأعداد بأنها لانهائية - بغض النظر عن انه خطأ - هو حكم على واقع محسوس هو الأعداد ، أي حكمنا على الأعداد التي يقع عليها حسنا بأن لا نهاية لها ، فالتفكير الذي حصل هو تفكير في واقع محسوس، والحكم الذي صدر هو حكم على واقع محسوس ، فليس هو تفكيرا في الأعداد التي لم يصل اليها الحس ولا الحكم صدر على ما لم يحس منها.


وأما أن العقل يدرك عدم وجود اكثر من اله فإنه آت من التفكير في الواقع المحسوس وليس من التفكير في ذات الله تعالى، قال تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } { إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } فانتظام امر السماوات والارض في نظام واحد واستقرارهما على حالهما هو الدليل على عدم وجود آلهة مع الله أي هو الدليل على وحدانية الاله وهو الله سبحانه وتعالى. فالحس نقل واقع السماوات والأرض الى الدماغ والتفكير جرى فيهما والحكم صدر عليهما بأن مالكهما واحد هو الله سبحانه وتعالى. فذات الله سبحانه وتعالى ليست هي ما وقع عليه الحس ولا كانت هي محل التفكير ولا الحكم صدر عليها. وأيضا انتقل واقع الأشياء التي ادعيت لها الألوهة كالأصنام الى الدماغ بواسطة الحواس وبوجود المعلومات السابقة عن الألوهة وعن الأصنام حكمنا على الأصنام بأنها ليست آلهة.


وأما قولك أن العقل ( يدرك ضرورة أن يكون هناك خالق لكل مخلوق )، فإن تركيب الجملة غير دقيق لأن مفهومها لا يمنع من تعدد الخالق، والصواب أن يقال " خالق لكل المخلوقات " فالمخلوقات تدل على وجود الخالق، أو وجود الخالق مدرك من وجود المخلوقات. على أي حال المثال لا يدل على حصول التفكير في غير الواقع المحسوس، لأن التفكير في وجود الخالق إنما يكون من خلال التفكير في مخلوقاته، فالتفكير في الكون والانسان والحياة يوصل الى ادراك وجود الخالق. والكون والانسان والحياة واقع يقع عليه الحس. ومن جهة أخرى فإن المخلوق هو أثر للخالق، وأثر الخالق جزء من وجوده، فالتفكير في المخلوق هو تفكير في وجود الله تعالى لا في ذاته ، فوجوده تعالى مدرك بالحس من ادراك مخلوقاته. فالواقع الذي انتقل الى الدماغ بواسطة الحواس هو المخلوق أي اثر الخالق عز وجل وليس ذاته جل شأنه، والتفكير جرى بهذا المخلوق أي بأثر الخالق لا بذاته، أي في وجوده سبحانه وتعالى لا في ذاته، ونتيجة التفكير هي صدور الحكم على المخلوق بانه مخلوق، فكان هذا هو الدليل على وجود الخالق.


وأما أن العقل يدرك أن لكل علة معلول وأن هناك أمورا مستحيلة كاجتماع المتناقضين، فإن هاتين القاعدتين توصل اليهما العقل من خلال التفكير في الواقع المحسوس، واصبحتا مسلمتين عقليتين نتيجة تكرار ادراك العقل لانطباقهما على الواقع المحسوس وعدم تخلفهما ولا لمرة واحدة. فلا يوجد في هاذين المثالين أي وجه للاستدلال على أن التفكير يصح في غير الواقع المحسوس، اللهم الا اذا كان للخلط بين الواقع المحسوس والواقع الملموس أثر في ذلك.
__________________
لا إله إلا الله محمد رسول الله