الموضوع: جسد بلا روح
عرض مشاركة مفردة
  #95  
قديم 12-09-2004, 07:38 AM
المشرقي الإسلامي المشرقي الإسلامي غير متصل
عضو مشارك
 
تاريخ التّسجيل: Nov 2003
الإقامة: مصر
المشاركات: 637
إفتراضي

زمن الوهم

هذه القصة حازت المركز الأول على مستوى الجامعات المصرية في مسابقة القصة القصيرة في معهد إعداد القادة بحلوان في الدورة الأولى المنعقدة في المدة من 29-6-2003 حتى 2-7- 2003 والمركز الأول على مستوى جامعة السادس من أكتوبر سنة 2004.
كانت المرة الأولى التي أراه في النادي وهو يناديني في هدوء حيي بلهجة مصرية ركيكة ويقول:
- أهلاً بك
-أهلاً بك
- عذراً..لي سؤال وأرجو ألا أكون قد أثقلت عليك.
- تفضل.
في الواقع .. أنا أسكن قريباً منك ، وقد عشت معظم عمري في ألمانيا ....
- تفضل
- في الواقع.. أشعر بفرق شاسع البون بين الحياة في ألمانيا والحياة هنا في مصر، وقد سمعت عن علاقاتك الاجتماعية المتعددة بكل من داخل أو خارج النادي . أرجو منك أن تصطحبني معك في تجوالك في الأوقات المختلفة لأنني لا أعرف عن مصر شيئاً وأعول عليك في ذلك الكثير .. أرجو ألا
أكون أثقلت عليك ..عذرا

- كما تحب.
* * *
لم أعجب من شيء في عمري كله كما عجبت لهذا الموقف . إنني لا أنكر أنني قد عشت مواقف كثيرة منها الصعب ومنها الغريب ومنها المخيف ، لكني لم أر إنسانا ً حيرني كما حيرني هذا لشاب بسؤاله الغريب .. فما باله يسأل أمراً كذلك ؟أهي رياح الوطنية قد أتت عليه من السماء مرة واحدة ؟ أم هو إنسان يظن نفسه في الجمهورية الأفلاطونية ينزل عليه الخل الوفي ويعيش معه مثاليات هذا العالم العلوي؟
لكني لم أكد أهزأ حتى انتابني القلق وأنا أسأل في نفسي :و لم لا يكون جاسوساً يبتغي من قوله ذلك شراً مضمراً لا يعلمه إلا الله ؟ لكني ما برحت أسأل نفسي حتى قلت:" على أسوأ الأمور فإني لن أحار في التعامل معه في أسوأ الظروف .. فلأوافقه إلى ما يريد .. ولنرى.."
* * *
ولم يمر يوما ن إلا وقد لقيني في النادي في نفس المكان ليقول لي مبتسماً :
- أنت الذي تحدثت إليه منذ يومين . أليس كذلك؟
- بلى . تفضل.
- أخبرني عزيزي .. هل اخترت مكاناً معيناً ؟
- بالطبع ..نعم.
و لم أكن قد حددت مكاناً ولا زماناً، لكن رغبة مني في معرفة ما سيقوم به قلت ذلك لأراه يملأ قلبي غيظاً حينما قال:
- متى إذن؟ - وقتما تشاء.
* * *
لم أكن فيما أشعر به إلا مستبقاً هموماً لا داعي لها ، فقد خرج معي وتكشفت لي خباياه البريئة التي لا تضاهيها في براء تها إلا براءة الطفولة، وقد كان يحدثني عن ألمانيا وما فيها وما بها من حسن وسوء .. وأنا مبهور بهذا الشاب الذي لم يكن مما تخيلت فيه شيئاً..
يوماً بيوم صرنا أصدقاء لا غنى لأحدنا عن الآخر، وتوالت من بعدها اللقاءات وما مكان في مصر إلا زرناه أثرياً أو دينياً أو سياحياً أو رياضياً أو ساحلياً وصار كل منا يزور الآخر في منزله ، وقد كان بيننا من حبل الصداقة ما لا يُرجى انقطاعه ، حتى كان ما كان…
* * *
كان اليوم الذي جئت لزيارته في منزله كما وعدته ، ولم أخلفه كما لم يخلفني.. لكنه كان على غير ما عهدت وما خيل لي يوماً أن أراه في هكذا حال.
كان شاحب الوجه مصفرّه ، مرتخي الأظراف يابسها ، متوالي الأنفاس متقطعها ، صعب أن تسمعه وأصعب منه أن تفهمه وهو ممدد بفراشه ، ولم يمهلني السؤال حتى قال :
- علها المرة الأخير ة التي أراك فيها.- لماذا ؟ كلنا يصاب بشيء من المرض ما يلبث مدة حتى ينقضي.
- ينقضي؟! أرجو ذلك .. استمع إلي واحكم أمحق فيما أقول أم لا........
يشهد الله أني لم أكذبك فيما حكيت لك عن أمري شيئاً ولم أكتمك حديثاً ولكن تبدّى لي بالأمس ، الأمس فقط ما لم أكن أعرف.
كان والدي في أول أيامه معانياً من ضيق المعيشة ، فقاده ذلك إلى السفر إلى ألمانيا ، ومكث هنالك ما شاء الله له أن يمكث ، فصار هناك وقد تحسن حاله ، وتزوج أمي الألمانية ، ولم يكن ليعكر صفو حياته شيء ، حتى إذا بلغ من الرخاء مبلغه اتجه إلى إدارة الأعمال ، وظل على هذا الحال حتى بلغت العشرين من عمري وارتأى أن أرجع إلى مصر وأن أعيش معه ما تبقى من العمر، وكان يقول لي "إنه لا يصح أن يجهل من هو في سنك كل ذلك عن وطنه" . أما أمي ، فلم تكن لتوافقه ذلك ، وكانت ترى أن مصر لا تفوق ألمانيا في شيء، وكانت تقول "إنه يجب أن يعيش ويموت ألمانياً . ألمانيا هي أول ما تفتحت عليه عيناه، والحياة هنا مستقرةأكثر من مصر"
ولم يكن الخلاف ليطول حتى افترقا، فعدت إلى مصر مع والدي ، بينما ظلت أمي هناك ، ولم يكن الأمس إلا لأجد والدي مكبلاً في الأغلال مقتاداً إلى السجن بعد أن ثبتت إدانته وتورطه في أعمال الاختلاس والسرقة . تصور .. ذلك الرجل الذي حوطني بعنايته وتولاني برعايته وأنفق علي الكثير والكثير والذي علمني الصدق والأمانة والمثالية.. هذا الأب الذي لم يكن ليغمض له جفن إن تأخرت لحظة عن الرجوع إلى البيت .. هذا الأب الذي لطالما ضمني ذراعاه .. ها هو الآن ملقى في غياهب السجن . ولم يكن مني بعد مرآه على هكذا حال إلا ما تراه علي الآن .. لقد قتلني وأودى بي إلى حيث لا أدري ، لا أعرف آبكيه لما صار له؟ أم أبكي لما تبدت لي من حقائق طبعه ؟ أم ماذا أفعل؟ كلما أخذتني نفسي بعتابه على سوء فعائله يتراءى لي حبه وما حوطني به من عناية فتمنعني ذلك، فلا أنا فرح بوجوده ، ولا أنا قادر على إقناع نفسي بالبعد عنه ولا أنا قادر على وصف حالي وما آل إليه عمري . هل تعرف هذا البيت؟ لم يعد بيته . لقد صار بيت الذي فتح لك الباب ، أحد الدائنين الذين لم يستوفوا منه ديونهم فلم يجد غير الحجر على منزله سبيلاً لرد دينه ، ولقد استبقى عليّ بعد أن توسل إليه والدي ، وهو- أي الدائن- لم يكن له من أبناء فلم يمانع من وجودي هنا معه ، وقد أنس بي واطمئن إلي فأبقى علي ّ هنا معه ، ولم أر في والدي شيئاً طيباً إلا وجدته فيه. إنني لما رأيت أبي يُقتاد بين أيدي العسكر إلى السجن صار لي ما صار...
ولو أن الأمر وقف عند هذا الحد إذاً لهان الخطب . بالأمس اتصلت بي أمي من ألمانيا تخبرني بأنها ليست أمي الحقيقية.. إنها الزوجة الثانية له، أما أمي الحقيقية .. فقد ماتت في أول أيام ولادتي .. قل لي الآن محقٌ فيما قلته لك أم لا؟
ولم يكن مني إلا أن أطمئنه وواعدته زيارة أخرى ، ولم أخلفه وعداً ، فلم يمض سوى يومين حتى زرته ، لكني ما إن اقتربت من منزله حتى وجدته أعلم بنفسه وقد صدقت نبوءته، وجدت سرداق العزاء قد نصب والمعزون يتوافدون على الدائن الذي كان عنده، حتى إذا ما فرغوا سلمت عليه وشد على يدي وقال "يحق لك أن تبكي وأن تفعل ما هو أكثر من ذلك ، يحق لمن عرفه أن يحزن أيما حزن . لقد عشت معه أياماً قلائل ووجدت فيه ما لم أجد في غيره .وجدت فيه مرؤة الأب ، وحنو الأم ، وبراءة الطفل. عاش مع أب وهمي وأم وهمية في زمان وهمي، فآثر الانتقال إلى عالم الحقيقة"

* * *
__________________
هذا هو رأيي الشخصي الخاص المتواضع، وسبحان من تفرّد بالكمال
الرد مع إقتباس