عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 21-12-2006, 07:44 AM
مواطن مصري مواطن مصري غير متصل
عضو جديد
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2006
الإقامة: مصر
المشاركات: 166
إفتراضي نتعاون فيما اتفقنا عليه

السؤال:
قرأت لكم في أكثر من كتاب، وسمعتكم في أكثر من محاضرة تدعون إلى القاعدة التي تقول: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".
فمن الذي وضع هذه القاعدة في صيغتها هذه؟ وهل لها دليل من الشرع؟ وكيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين؟ وكيف نعذر من يخالفنا إذا كان هو مخالفًا للنصوص من الكتاب والسنة؟
أليس مطلوبًا منا أن ننكر عليه ونهجره، بدل أن نسامحه ونعذره؟ أليس القرآن الكريم يقول: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) (النساء: 59)؟ فلماذا لا نرد هذا المخالف إلى الكتاب والسنة، وهو المراد بالرد إلى الله والرسول، بدل أن نلتمس له العذر، وأي عذر له في مخالفة النص؟
أصارحكم أن الأمر قد التبس علينا، وغدونا في حاجة إلى توضيح معالمه وإقامة الأدلة عليه، وأنتم لذلك أهل بما أفاء الله عليكم، فلا تضنوا على إخوانكم وأبنائكم بذلك، ولكم منا الشكر، ومن الله الأجر.
المفتي :
الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي
التاريخ : 21/11/2001
الجواب :

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
الذي وضع القاعدة المذكورة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" في هذا الصيغة هو العلامة السيد رشيد رضا -رحمه الله- زعيم المدرسة السلفية الحديثة، وصاحب "مجلة المنار" الإسلامية الشهيرة، وصاحب "التفسير" و"الفتاوى" والرسائل والكتب التي كان لها تأثيرها في العالم الإسلامي كله، وقد أطلق عليها: "قاعدة المنار الذهبية"، والمقصود منها: "تعاون أهل القبلة" جميعًا ضد أعداء الإسلام.

ولم يضع السيد رشيد هذه القاعدة من فراغ، بل الذي يظهر للمتأمل أنه إنما استنبطها من هداية الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وإملاء الواقع وظروفه وضروراته، وحاجة الأمة الإسلامية إلى التلاحم والتساند في مواجهة أعدائهم الكثيرين، الذين يختلفون فيما بينهم على أمور كثيرة، ولكنهم يتفقون على المسلمين وهو ما حذر منه القرآن أبلغ التحذير: أن يوالي أهل الكفر بعضهم بعضًا، ولا يوالي أهل الإسلام بعضهم بعضًا، يقول تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (الأنفال: 73).

ومعنى (إلا تفعلوه): أي إن لم يوال بعضكم بعضًا ويساند بعضكم بعضًا كما يفعل أهل الكتاب في جانبهم، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير؛ لوجود التماسك والتلاحم والموالاة بين الكفار، في مقابلة التفرق والتخاذل بين المسلمين.
فلا يسع أي مصلح إسلامي إلا أن يدعو أمة الإسلام إلى الاتحاد والتعاون، في مواجهة القوى المعادية لهم، المتعاونة عليهم، وهي قوى عاتية جبارة، وأن ينسوا خلافاتهم الجزئية، من أجل القضايا المصيرية، والأهداف الكلية.

وهل يملك عالم مسلم يرى تعاون اليهودية العالمية، والصليبية الغربية، والشيوعية الدولية، والوثنية الشرقية، خارج العالم الإسلامي - إلى جوار الفرق التي انشقت عن الأمة ومرقت عن الإسلام، داخل العالم الإسلامي - إلا أن يدعوا أهل القبلة الذين التقوا على الحد الأدنى من الإسلام، ليقفوا صفًا واحدًا في وجه هذه القوى الجهنمية التي تملك السيف والذهب، وتملك قبلهما المكر والدهاء والتخطيط، لتدمير هذه الأمة ماديًا ومعنويًا؟!

ولهذا رحب المصلحون بهذه القاعدة، وحرصوا على تطبيقها بالفعل، وأبرز من رأيناه احتفل بها الإمام الشهيد حسن البنا، حتى ظن كثير من الإخوان أنه هو واضعها.
أما كيف نتعاون مع المبتدعين والمنحرفين، فالمعروف أن البدع أنواع ومراتب. فهناك البدع المغلظة، والبدع المخففة، وهناك البدع المكفرة، والبدع التي لا تخرج صاحبها عن الملة، وإن حكمنا عليه بالابتداع والانحراف.

ولا مانع أن نتعاون مع بعض المبتدعين فيما نتفق عليه من أصول الدين ومصالح الدنيا، ضد من هم أغلظ منهم في الابتداع، أو أرسخ في الضلال والانحراف، وفقًا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
والكفر نفسه درجات، فكفر دون كفر، كما ورد عن الصحابة والتابعين. ولا مانع من التعاون مع أهل الكفر الأصغر، لدرء خطر الكفر الأكبر. بل قد نتعاون مع بعض الكفار والمشركين - وإن كان كفرهم وشركهم صريحًا مقطوعًا به - دفعا لكفر أشد منه عداوة أو خطرًا على المسلمين.

وفي أوائل سورة الروم، وما عرف من سبب نزولها: ما يشير إلى أن القرآن اعتبر النصارى - وإن كانوا كفارًا في نظره - أقرب إلى المسلمين من المجوس عبدة النار، ولهذا حزن المسلمون لانتصار الفرس المجوس أولاً على الروم من نصارى بيزنطة، على حين كان موقف المشركين بالعكس؛ لأنهم يرون المجوس أقرب إلى عقيدتهم الوثنية.

فنزل القرآن يبشر المسلمين أن هذا الوضع سيتغير، وتتجه الريح لصالح الروم في بضع سنين، (ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) (الروم: 4،5). يقول القرآن: (آلم غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) (الروم: 1 -5).

وقد استعان النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد فتح مكة ببعض مشركي قريش في مواجهة مشركي هوازن، وإن كان شركهما في درجة واحدة، لما لمشركي قريش من الصلة النسبية الخالصة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحميتهم له من ناحية العصبية، حتى قال صفوان بن أمية قبل أن يسلم: لأن يربني - أي يسودني - رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن!
وأهل السنة - رغم تبديعهم للمعتزلة - لم يمنعهم ذلك أن يستفيدوا من إنتاجهم العلمي والفكري، في المواضع المتفق عليها، كما لم يمنعهم ذلك أن يردوا عليهم فيما يرونهم خالفوا فيه الصواب، وحادوا عن السنة.

وأبرز مثل لذلك كتاب "الكشاف" في التفسير للعلامة الزمخشري، وهو معتزلي معروف، ولكن لا نجد عالمًا من بعده ممن له اهتمام بالقرآن وتفسيره إلا أخذ منه وأحال عليه، كما هو واضح في تفاسير الرازي والنسفي والنيسابوري وي وأبي السعود والألوسي وغيرهم.
ولأهميته عندهم نجد رجلاً كالحافظ ابن حجر يخرج أحاديثه في كتاب سماه "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف"، ونجد العلامة ابن المنيّر يؤلف كتابًا في التعقيب عليه، خصوصًا في مواضع الخلاف يسميه "الانتصاف من الكشاف".

والإمام أبو حامد الغزالي حين رد على الفلاسفة، الذين كانت أقوالهم فتنة لكثير من الناس، حتى غدت أصلاً تحاكم إليه نصوص القرآن والسنة، فإن وافقته فبها، وإلا أعمل فيها مشرط التأويل، مهما تكن قاطعة الدلالة. أقول: حين قام بهذه المهمة استعان عليها بكل الفرق الإسلامية التي لم تبلغ درجة الكفر، ولهذا لم يجد حرجًا أن يأخذ من المعتزلة وأمثالهم ما ينقض به قول الفلاسفة، وقال في ذلك في مقدمة "التهافت":
(ليعلم أن المقصود تنبيه من حسن اعتقاده في الفلاسفة، وظن أن مسالكهم نقية عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم، فلذلك أنا لا أدخل عليهم إلا دخول مطالب منكر، لا مدع مثبت، فأكدر عليهم ما اعتقدوه، مقطوعًا بإلزامات مختلفة، فألزمهم تارة مذهب المعتزلة، وأخرى مذهب الكرامية، وطورًا مذهب الواقفية، ولا أنتهض ذابًا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبًا واحدًا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد) (من المقدمة الثالثة للتهافت).

__________________