هل تحتاج الجماهير الى نخب و طلائع أم أنها استغنت عنها ؟
يتفوق الأفراد المثقفون سواء كانوا جزءا من الطلائع أو النخب على غيرهم من الناس ، بالقدرة على التعبير عما يفكرون به ، فلذلك تجدهم يتصدرون الدواوين و منصات الخطابة ، ويدونون و يكتبون ، وكأنهم قد حصلوا على تفويض مطلق من كل الناس ..
في حين تخون قدرة التعبير الكثير من المواطنين ، حتى الكثرة من المتعلمين منهم في تبيان آراءهم ، والدفاع عما يجول في خاطرهم ، وهذا مما يجعل النخب و الطلائع في وضع تنظر فيه الى الناس على أنهم ( بلوك) من الدهماء الجهلة ..
يسير الآلاف من المتظاهرين ، في المسيرات المصرح بها من الدولة ، أو التي تخرج دون تصريح ، فينبري من يهتف بينهم هتافات معظمها أعدت في السابق لمناسبات تختلف عما هي عليه في المسيرة الراهنة أو الاعتصام الراهن . ويحس كثير من السائرين الذين يشاركوا في المسيرة أن أصواتهم لا تخرج أو أنها تخرج ولكن بشكل همهمات وتمتمات غير واضحة ، ويحسون أمام أنفسهم بحرج بليغ ، لسبب أنهم غير مقتنعين بما يطرح من شعارات و ما يقال من هتافات ، أو أنهم يحسون أنهم متخلفين عن التعامل مع مثل تلك الهتافات !
تصل المسيرة الى نقطة النهاية ، فيقوم خطباء تم الاتفاق عليهم مسبقا من قبل من قام بتنظيم تلك المسيرة ، فيقولون كلاما ، يهيئ إليهم أنه كلام هام ، وأنه يعبر عما يدور في عقول و نفوس الحشود .. ثم تصاغ برقيات اختتامية ، لتضع نهاية لهذا العمل الجماهيري العظيم !
في هذه الأثناء يتعامل المحتشدون مع الكلام ، وكأنه ( طنين ) أو (دوي ) أو طقس تم التعامل معه آلاف المرات ، فأصبح كأنه طقس من طقوس التعزية ، عظم الله أجركم ـ شكر الله سعيكم .
عندما ينفض المتظاهرون أو المعتصمون من عملهم ، يعودون وتسكنهم مشاعر بأنهم قدموا ما هو مطلوب منهم ، ويتباهون بذلك ، بأنهم تحركوا ، في حين غيرهم لم يتحرك . ويعود منظمو المسيرة أو الاعتصام يزهوهم شعور بأنهم قاموا بعمل استثنائي ، وسيضيفون ما قاموا به الى فهارسهم ليتفاخروا به أمام المتقاعسين .. و يذخرون تاريخه لحين وقت المجادلات التي يرميها بهم البعض ، مستنكرا ضآلة دورهم ، وكأن أحد الناس قد عاتبهم لماذا غابوا عن عزاء !
نجد في المقابل الدولة التي قد استنفرت أجهزتها الأمنية ، قد زفرت زفرة الراحة بعد انتهاء هذا العمل الجماهيري العظيم !
عندما تتوالى نكسات الأمة وانكساراتها يوما تلو يوم ، يحس الشعب ، كأنه معشر أيتام لا أب عادل يرعى وضعه و يدافع عن كرامته ( الدولة ) ، ولا وصي يهتم بأمور حياته حتى يشتد عوده ( المعارضة القوية ) .. فيحس كل واحد من أبناء الشعب وكأنه أصبح ذرة من غبار هائمة في الفضاء .. شعور بانعدام الوزن وعبثية الدور العالمي و قلق متزايد على المستقبل ..
تعاود أصوات الكتاب ممن يمثلون الطلائع و النخب ، بالضغط بقلم على كلمات سطور خطابها ، لتزداد وضوحا . يحمل فيها كل طرف الأطراف الأخرى المسئولية عن تلك الحالة المزرية ، ويتنصل كل فصيل من المسئولية .. في دورة من الحراك السياسي الباهت ، الذي يدفع عموم الشعب ، لأن يضغطوا على كلمات اعترافهم بالشعور واليتم ..
قطرات الماء الفرادى و ان كثرت دون تجمع ، لن تروي أرضا ، ولن تغسل وساخة ، وستتبخر مهما بلغت أعدادها غير المتجمعة . حبات الحصى التي تنتشر من المحيط الى الخليج لن تصب عمودا كونكريتيا إن لم يتم التحضير لها وتوحيدها و إزالة الشوائب منها . وجوه الناس البؤساء ، لن تخيف قطا حتى لو وصلت أعدادها الى المليارات ، فستكون بائس مضروب بمليار ، كما هو الصفر إذا ضرب (رياضيا وحسابيا ) بمليار ، سيبقى صفرا ..
أهمية الطلائع و النخب ، هي أهمية ما ينظم أرقاما صماء ، في كل شأن ، لكن أي طلائع و أي نخب ؟ .. أكيد ليست تلك التي طفت على السطح لعقود ، لا يحركها سوى شعور وجداني هائم ، انتهى مفعوله في إثارة الهمم الطيبة ، حتى غدا تكراره يشكل عاملا في إماتة الهمم الطيبة !
__________________
ابن حوران
|