الموضوع: مقال
عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 08-11-2002, 02:25 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي مقال

السفير
2002/11/07
التغريب والاغتراب في تقرير
<<التنمية الإنسانية العربية>>
جلال أمين

مقدمة:محمد ب

أحببت أن أقدم هذا المقال القيم للأستاذ جلال أمين وهو بمنسبة صدور تقرير "التنمية الإنسانية العربية" الذي أثار ضجة كبرى.
ولكنني نسخته لكم ليس بسبب موضوعه الظاهري الذي قد لا يثير اهتمام القارئ العجول بل بسبب عمق الأطروحات التي يسوقها الأستاذ جلال أمين ويناقش فيها قضايا كبرى من نوع:كيف نقيم التنمية و "التقدم" في مجال معين،وكيف تختلف المعايير بين ثقافة وأخرى بحيث تغبن الثقافة المعنية إذا طبقت عليها مقاييس ثقافة أخرى.
لهذا أنا أدعو بكل إلحاح العدد القليل من المهتمين بالقراءات الجادة المفيدة لقراءة هذا المقال.
وهو يؤكد مرة أخرى ما قلته في كتابات صحفية سابقة كثيرة من أن الأستاذ جلال أمين هو من أبرز منظري التيار التأصيلي العربي المعاصر.


لا بد أن أقر بدهشتي الشديدة من الاستقبال الذي قوبل به <<تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002>> الذي صدر منذ أربعة شهور عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهو يحمل أيضاً على غلافه اسم <<الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، باعتباره إحدى المؤسستين الممولتين للتقرير، وإن كان من الواضح، أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو الذي يتحمل أكبر قدر من المسؤولية عنه، إذ يتكرر اسمه وحده بعد ذلك، من صفحة لأخرى، وحقوق الطبع محفوظة له دون غيره. أما كاتبو التقرير فهناك قائمة بأسمائهم وكلها تقريبا أسماء عربية وكثير منها لأشخاص مرموقين يحتلون مكانة ممتازة في ميادين تخصصهم.
ربما كان من المفهوم الاستقبال الذي حظي به التقرير في وسائل الإعلام الغربية، فنحن نعيش في وقت أفضل شيء يمكن أن تقوم به فيه، إذا أردت أن تضمن النجاح والشهرة والتهليل لك في الغرب، هو أن تشتم العرب أو المسلمين. وهذه هي في رأيي الرسالة الأساسية لهذا التقرير.
أما الحماسة التي قوبل بها التقرير في وسائل الإعلام العربية فهي ما يثير أكبر قدر من الدهشة، والأسف أيضاً. وقد فسرته على أي حال بأمرين:
الأول: أن لدينا نحن العرب والمسلمين مدرسة مماثلة لمدرسة تحقير العرب والمسلمين الشائعة منذ فترة في الغرب. وهى مدرسة لا ينبغي التهوين من شأنها من حيث عدد أفرادها أو حجم نشاطها وتأثيرها.
والثاني: أن هناك عدداً أكبر مما نظن من مثقفينا ما زالوا ينخدعون بسهولة بأي شيء فيه شبهة العلم، ويظنون أن أية كتابة تحتوي على أرقام وبعض المصطلحات الصعبة، لا بد أن تكون عملاً علمياً يستحق الإعجاب.
ذلك أني وجدت هذا التقرير، فضلاً عن حرصه الواضح على اقتناص أية فرصة لتوجيه الاتهام إلى العرب والتقليل من شأنهم، يتضمن استخدامات معيبة للأرقام، ويحتوي على الكثير من الكليشيهات الضخمة الفارغة من المضمون (من نوع العبارة الآتية: <<وفي التحليل النهائي، التنمية الإنسانية هي تنمية الناس، ومن أجل الناس، من قبل الناس>> ص14)، وكذلك الكثير من التقارير التي لا تزيد على أن تكون مصادرة على المطلوب أو تحصيل الحاصل (من نوع العبارة الآتية: <<إن التنمية الإنسانية ضرورية لتحقيق كل من النمو الاقتصادي المستدام وتخفيف حدة الفقر>> ص12).
والنسخة العربية من هذا التقرير (التي اعتمد عليها في هذا المقال) مليئة بالجمل والتعبيرات الملتوية التي تجعل من الصعب متابعتها، مما يرجع في رأيي، جزئياً، إلى محاولة متعمدة للإيهام بأن التقرير فيه عمق هو في الحقيقة خال منه، كما يرجع إلى أن النسخة العربية تفوح منها بشدة رائحة الترجمة، بمعنى أن النسخة الإنكليزية لا بد من أن تكون هي التي كتبت أولاً ثم ترجمت إلى العربية وليس العكس، مما جعل كثيراً من العبارات، المفهومة بالإنكليزية عسيرة الفهم بالعربية، إذ يتطلب فهمها تخميناً في البداية لما يمكن أن يكون أصلها الإنكليزي.
بالإضافة إلى هذا كله يكاد التقرير أن يكون خالياً من أية محاولة جدية لتفسير ما حدث، أي تفسير الأداء الاقتصادي والاجتماعي العربي، ففيه من التقريرات والوصف أكثر مما فيه من تحليل أو تفسير. لقد كان المرء يتوقع من تقرير بلغ من طموحه أن يطرح مفهوماً جديداً للتنمية يحل محل المفهوم السائد للتنمية البشرية ويسمى باسم <<التنمية الإنسانية>>، أن يبذل واضعوه بعض الجهد في تحليل المفاهيم المختلفة السائدة، أو التي كانت سائدة، كالتنمية بمعنى مجرد زيادة الدخل، والتنمية بمعنى التنمية البشرية، ومفهوم إشباع الحاجات الأساسية، والمفهوم الذي طرحه منذ سنوات قليلة <<أمارتيا سن>> (Amartya Sen) ويقوم على <<توسيع مجال الاختيار>>، وأن يناقش مختلف صور القهر التي يمكن أن تعطل تحقيق هذا النوع أو ذاك من التنمية الإنسانية. ولكن القارئ لا يجد مناقشة حقيقية لأي شيء من هذا، بل يجد عدداً من الأفكار المتناثرة أُخذت من هنا وهناك، دون تمحيصٍ أو مناقشة، أو يجد رفضاً لما جرى عليه العمل دون تبرير كافٍ أو مقنع لهذا الرفض. ومع هذا يقدم كل هذا للقارئ دون أية محاولة للاعتذار عن قصور الجهد في مواجهة مشكلات فكرية عويصة، وبنبرة خالية من أي إيحاء بالتواضع، وإن كانت لا تخلو من خيلاء ومباهاة لا يجد القارئ لها مبرراً.
فما الذي فعله التقرير بالضبط؟
تناول واضعو التقرير مقياس <<التنمية البشرية>> الذي ابتدعه برنامج الأمم المتحدة منذ 12 عاماً، والذي يقوم على ثلاثة مؤشرات: متوسط الدخل، والعمر المتوقع عند الميلاد، ومستوى التعليم، حيث تعتبر الدولة متقدمة في مضمار التنمية البشرية كلما ارتفع متوسط الدخل فيها، وزاد العمل المتوقع عند الميلاد، وانخفضت نسبة الأمية وزادت نسبة الطلاب المقيدين بالمدارس. تناول واضعو التقرير هذا المقياس وأدخلوا عليه تعديلات جوهرية: فحذفوا مؤشر متوسط الدخل تماماً، واحتفظوا بالمؤشرين الآخرين، ولكنهم أضافوا أيضاً أربعة مؤشرات جديدة:
1 مؤشر الحرية، 2 ومؤشر أسموه <<تمكين النوع>>، ويعكس على حد تعبيرهم <<مدى توصل النساء للقوة في المجتمع>>، 3 ومؤشر الاتصال بشبكة الإنترنت، 4 ومؤشر تلوث البيئة، وسموا المقياس الذي يجمع بين هذه المؤشرات الستة (أو يلخصها) <<التنمية الإنسانية>>، تمييزاً له عن المقياس السابق (وهو مقياس التنمية البشرية)، وقدموا لنا المقياس الجديد على أنه يقيس مدى التقدم في تحقيق آدمية الإنسان أو رفاهية الإنسان أو كلتيهما.
وسوف أترك في هذا المقال مناقشة ما أقدم عليه التقرير من استبعاد مؤشر متوسط الدخل، وهو (أي هذا الاستبعاد) مسلك غريب أثار دهشة الكثيرين من الاقتصاديين العرب. وهو أيضاً مسلك غير مقبول ولا مبرر له، ولكنه يحتاج إلى بحث مستقل لكثرة ما يثيره من قضايا، وسوف أركز في المقال الحالي على بقية المؤشرات التي استبقاها التقرير من المقياس القديم أو أضافها إليه.
من أول ما يثور في ذهن قارئ التقرير: لماذا اختيار هذه المؤشرات الستة بالذات (العمر المتوقع عند الميلاد، التعليم، الحرية، تمكين النوع، الاتصال بشبكة الإنترنت، وحالة البيئة)؟
لماذا اختار التقرير هذه المؤشرات بالذات من بين عشرات العوامل الأخرى التي لا شبهة في تأثيرها في الرفاهية الإنسانية؟ أين معدل البطالة مثلاً، بما يحمله من آثار على الشعور بالكرامة واحترام النفس؟ أين مستوى الاستقرار العائلي وقوة أو ضعف الشعور بالتضامن بين أفراد العائلة الواحدة؟ أين حجم أوقات الفراغ أو معدل التضخم الذي يؤثر في مدى الاطمئنان أو القلق على المستقبل؟ أين درجة الاستقرار الوظيفي وما يحمله أيضاً من معنى الاطمئنان على المستقبل؟ أين درجة انتشار العنف والجريمة؟ أين درجة انتشار التشرد بين الأطفال أو درجة انتشار الدعارة؟ أين حجم المدن أو مدى التعرض لأفلام العنف في التلفزيون أو لحملات الإعلان.. إلخ. لماذا أهملت كل هذه الأمور وغيرها وفُضّل عليها درجة الاتصال بشبكة الإنترنت، وتمكين النوع أو مدى توصل النساء للقوة في المجتمع؟
الرد مع إقتباس