الموضوع: مقال
عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 08-11-2002, 02:28 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

إن العجز عن التعبير بالأرقام عن تفضيل شيء على آخر لا يصلح لتبرير استخدام أوزان متساوية. فأنا مثلاً متأكد من أني أفضل حكم جمال عبد الناصر على حكم أنور السادات ولكني لا أستطيع أن أقول أن الأول يفضل الثاني بكذا درجة، فهل يجوز أن نقول إن هذه الصعوبة تسمح لنا بالقول إنه لا يهم ما إذا كان سيحكمنا هذا الرجل أو ذاك؟ كل هذه النتائج الغريبة نتجت عن جمع وطرح ما لا يجوز جمعه وطرحه، والإصرار على التعبير برقم واحد عن أشياء ذات طبيعة مختلفة أشد الاختلاف. والإحصائي الحصيف هو الذي يعرف متى يجوز أن يمارس مهنته في الجمع والطرح ومتى يجب أن يمتنع عن ذلك. وهذا هو بالضبط ما لم يفعله هذا التقرير.
أما <<الجهل>> الذي يشير إليه التقرير باعتباره يسمح للإحصائي باستخدام أوزان متساوية، فالمقصود به في الحقيقة <<اللامبالاة>>، أي عدم وجود أي سبب لتفضيل شيء على آخر، ولكن هذه <<اللامبالاة>> لا يمكن افتراضها في الموضوع الذي نحن بصدده، لا في كاتب التقرير ولا في قارئه. بعبارة أخرى: لا يمكن أن نفترض أن أحداً منا لا يعلق أهمية أكبر على بعض هذه المؤشرات مما يعلقه على غيرها.
ولكن فلنترك جانباً مسألة الجمع والطرح بين مؤشرات لا تقبل الجمع والطرح، ولنركز على سبب اختيار التقرير لهذه المؤشرات الستة بالذات.
لا شك في أن الذي حدث هو شيء كالتالي: سأل المكلفون بوضع هذا التقرير أنفسهم: ما هى طيبات الحياة؟ فلم تتفتق أذهانهم عن أكثر مما يفعله الناس في الغرب. نظروا إلى الغرب فوجدوا الناس هناك يستهلكون السلع والخدمات بكثرة، ومن أحدث هذه السلع الكمبيوتر، ووجدوهم يذهبون كل بضع سنوات إلى صناديق الانتخاب، ويحاولون بقدر الإمكان على الأقل في العقود الأخيرة ، أن يعاملوا المرأة كما يعاملون الرجل.. إلخ وقاسوا الأداء العربي على ذلك، فوجدوا الأداء العربي بالطبع منخفضاً وهي نتيجة بديهية، تترتب بالضرورة على ما وضعوه ابتداءً من افتراضه. فإذا كان التقدم والتخلف يقاسان بما يفعله الآخرون لا بما نفعله نحن، فلا بد من أن نكون نحن متخلفين بالمقارنة بهؤلاء الآخرين!
المهمة إذن بسيطة جداً: ليس من الصعب على واضعي تقرير التنمية الإنسانية العربية أن يرسموا صورة إذا قيست بمنظور الغرب، تبدو بشعة للغاية، وهذا هو ما صنعوه. فما يقال كل يوم عن هذا وذاك جمع كله في تقرير واحد مدعم بالإحصاءات الملائمة وصيغ في صيغة أدبية إنشائية. وتصادف أن صدر التقرير في وقت لم يكن لدى الغرب فيه همّ إلا إلحاق كل النقائص الممكنة بالعرب والمسلمين فتلقفته وسائل الإعلام الغربية بالتهليل، ولخصته مجلة <<الايكونوميست>> البريطانية تلخيصاً وافياً مع الثناء الشديد عليه، ونشرت ذلك في مقال يحمل عنوان <<كيف يقود المرء نفسه إلى الفشل>> (Self-doomed to failure)، قاصدة بذلك أن العرب متخصصون في الفشل والخيبة، وهم الذين يجلبون لأنفسهم الخراب والبؤس، وليس من مسؤول عما هم فيه إلا هم أنفسهم، وهل هناك دليل أقوى على ذلك من تقرير كتبه كتّاب عرب مئة بالمئة؟ بل وعرب من الخبراء المرموقين؟ هكذا شهد شاهد من أهلها بأنه لا الغرب ولا إسرائيل يمكن أن يعتبر مسؤولاً عما حدث للعرب.
من أجل التدليل على فساد عملية الاختيار التي يقوم بها واضعو هذا التقرير بين مختلف صور <<التنمية الانسانية>>، أو التقدم والتأخر في مضمار الرفاهية الإنسانية، أو الارتقاء أو التدهور في معاملة الإنسان باعتباره إنساناً، سأثير السؤال الآتي:
لنفرض أنه حدث في السنوات العشر المقبلة أن تدهورت حال اللغة العربية بأكثر بكثير مما حدث لها في العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة، بحيث أصبح الأولاد والبنات العرب أقل قدرة على التعبير تعبيراً صحيحاً عن أنفسهم بلغتهم القومية. ألا يجب أن يعتبر هذا تدهوراً وتراجعاً في مضمار <<التنمية الإنسانية>> العربية؟ إذ ألا يعتبر من حقوق الإنسان ومصادر رفاهيته قدرته على التعبير باللغة التي نشأ عليها والتي يتكلمها آباؤه وأجداده؟ بل ألا يقول البعض (بحق في رأيي) أن القدرة على الإبداع مرتبطة ارتباطًا وثيقاً بقدرة المرء على التفكير والتعبير بلغته الأم، لا بأية لغة أخرى؟ إذا كان الأمر كذلك، فأين المؤشر الذي يعكس هذا التدهور أو التقدم من بين المؤشرات المستخدمة في هذا التقرير؟
أو فلنضرب مثالاً آخر أقل تشاؤماً وإن كان مفرطاً في عدم واقعيته. لنفرض أن بعض الدول العربية خلال السنوات العشر القادمة نجحت في تحقيق نوع من الوحدة أو التكامل السياسي والاقتصادي والثقافي بحيث أصبحت أجزاء الأمة العربية أقرب بعضها من بعض، والعلاقات الثقافية بين أبناء جزء من هذه الأمة وجزء آخر أقوى بكثير مما هى الآن، بل إننا نجحنا في توحيد مناهج التعليم وتقليل الفوارق بيننا في التعبير عن نفس الأفكار. ألا يعتبر هذا تقدماً في مضمار التنمية الإنسانية العربية شبيهاً بالتقدم الذي يجلبه ازدهار اللغة العربية وحلولها محل اللغات الأجنبية في حياتنا اليومية؟ فأين يمكن أن يظهر مثل هذا التقدم في مؤشرات <<التنمية الإنسانية>> المستخدمة في هذا التقرير؟
إن مثل هذا يمكن أن يقال عن مجالات أخرى للتقدم والتأخر <<إنسانياً>>، كطبيعة العلاقات العائلية السائدة ومدى تماسك العائلة أو تفككها أو نوع الرعاية التي يحصل عليها المسنون من أهلهم وذويهم، بدلاً من إيداعهم الملاجئ والبيوت المخصصة لكبار السن.. وهكذا، يمكن أن نضرب أمثلة كثيرة من هذا النوع، ولكن تقرير التنمية الإنسانية العربية ليس معنيّاً بمثل هذا التقدم أو التأخر، إذ إن مثل هذه الأمثلة، وإن كانت تتعلق قطعاً بجوانب <<إنسانية>> في التنمية، تتعلق بالتقدم أو التأخر في مجالات <<عربية>> صرف، والتقرير لا يُعنى إلا بما يعتبره الأجانب تقدماً أو تأخراً، بل ما يعتبرونه الآن كذلك، مثل التقدم أو التأخر في <<تمكين المرأة>>، وفي درجة الاتصال بالإنترنت>>. كما أن المؤشرات الأخرى (كالحرية والتحصيل التعليمي وتلوث البيئة) سوف يتبع في تعريفها وقياسها نفس المفاهيم المستخدمة في الغرب دون غيره، مع أن أهدافاً كالحرية أو التحصيل التعليمي أو نظافة البيئة يمكن أن تُفهم عندنا بمعانٍ مختلفة عما تُفهم به عندهم.
خذ مثلاً مؤشر <<الحرية>>. إن التقرير يتعامل مع موضوع الحرية ببساطة غريبة فلا يعترف بأن الحرية شيء متعدد الأبعاد والجوانب ولا يمكن تحويل بعض هذه الأبعاد والجوانب إلى غيرها، ومن ثم يستحيل قياسها. لا عجب إذن أن يستسهل التقرير إصدار الحكم التالي:
<<على مستوى مناطق العالم السبع الوارد في الشكل 2 4، يظهر أن الناس في المنطقة العربية كانوا الأقل استمتاعاً بالحرية، على صعيد العالم، في التسعينيات الأخيرة>>. (ص25).
إن إصدار مثل هذا الحكم القاسي دون أية محاولة لتحليل المفاهيم المختلفة للحرية، والصور المختلفة لفقد الحرية، يحتاج حقاً إلى جرأة فائقة، ذلك أني كنت أظن أن المرء يجب أن يتردد كثيراً قبل أن يقرر ما إذا كان المصري أكثر أو أقل حرية من الكيني أو البرتغالي، أو أن اليمني أكثر أو أقل حرية من الأميركي أو السويدي. من هذا النوع أيضاً من الأحكام المتسرعة ما جاء بالتقرير عن مفهوم <<التمثيل والمساءلة>>، إذ لم يتردد واضعو التقرير طويلاً قبل أن يقرروا أن الأردن أفضل بلد عربي من حيث <<التمثيل والمساءلة>>، ويليه في ذلك الكويت (ص107).
إن من الممكن أن نفهم <<التمثيل والمساءلة>> بمعنى اقتراب المجالس النيابية من التعبير الحقيقي عن رغبات المواطنين ومصالحهم، ومدى قدرتها على محاسبة السلطة التنفيذية على أخطائها. فهل حقاً من السهل على من يراقب الحياة السياسية في البلاد العربية المختلفة أن يقرر دون تردد أن الأردن والكويت هما أفضل الدول العربية في هذا الصدد؟ أم أن الأمر يحتمل بعض التردد والاختلاف والكثير من التحفظات؟
وقل مثل ذلك عن معيار <<فعالية الحكومة>>، الذي يقول التقرير إنه في ما يتعلق به، تأتى دولة عمان في المقدمة وتليها تونس ثم الأردن وقطر، أو عن <<استقلال الإعلام>> (الذي تحتل الأردن بشأنه المركز الأول) وعن الحريات المدنية.. الخ، حيث لا يشرح لنا التقرير كيف جرى قياس هذه الأشياء التى تستعصي حقاً على القياس. كل ما نعرفه هو أنه اعتمد في ترتيب البلاد طبقاً لهذه المعايير على دراستين أميركيتين قامتا بمقارنة بلاد العالم المختلفة وفقاً لما سمى <<بكفاءة الحكم>> Governance، وقام بنشرهما البنك الدولي في سنة 1999. وللقارئ أن يخمِّن ما إذا كان من الممكن أن تعتمد وتقر مؤسسة كالبنك الدولي، أي تحليل لمعايير مثل الحرية أو التمثيل والمساءلة أو فعالية الحكومة أو استقلال الإعلام.. الخ، لا يتفق مع أيديولوجية البنك وما يؤمن به من مبادئ الحرية الاقتصادية وإطلاق الحرية لقوى السوق.
الرد مع إقتباس