الموضوع: فقط يموتون
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 26-12-2002, 04:20 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي

والجثة التي يتوجه بها أهل القتيل وأصدقاؤه الى القبر، ليست جثة. هي ذي حيرة العين، وهي تشاهد شابا فلسطينيا تمرد على الاحتلال، على الاستعباد، وفي الحلق صرخة. لم يكن يعرف أنها الطريق الى القتل. فهو فقط يموت. ولا يفرق بين أن يموت، وبين أن يحيا. فسحة محجوبة بين أن يموت، وبين أن لا يموت. هي العودة الى البيت، مع الأصدقاء الذين غادروا بيوتهم دون أن يودع أحد منهم أما ولا أبا. عاشقة، أو صديقا. إنهم كانوا ذاهبين الى الحجارة، والتمرد. وعلى الطريق كان الموت. رصاصات مصوبة باتجاه الجبهة أو الصدر، تلك هي العلامة على حكم بالإعدام كان الإسرائيليون أصدروه من قبل، في حق كل فلسطيني، يتعلم التمرد على الاحتلال. القتل، في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، ودونما اعتبار لك أيها الشهيد. عمرك. عائلتك. دراستك. حلمك. أكثر من ذلك، حقك في الحياة، على أرضك. التاريخية.
(3 )
ذلك ما أبحث عنه. مركزا نظرتي على الصورة. الجثمان الذي يتململ. القسمات الصامتة، والعلم الفلسطيني الذي يلف الجسد من الكتفين الى القدمين. النظرة التي تتفحص، تقترب من الصورة، التي هي بدورها منقولة عبر شاشة، وأقمار اصطناعية. في بيتي أنت. محمولا على أكتاف أصدقاء. وأقرباء. شهداء. قادمين لربما. وهذه الصورة، التي تمزق الهواء، هي التي تذهلني. أنظر صامتا إليك، محمولا، ولا جرأة لي على الصرخة. أكاد أشهق. وفي الجنازة آلام مضاعفة. أيها القتيل. الشهيد. وحيدا في موتك. من أجل حرية. متمردا على احتلال لا يعرف كيف يئن. ولا كيف يبكي. يد القتل المشوهة بالعنف، هي اليد التي تحاكمنا، في الإعلام الغربي واضعة صورتك على جانب، كي لا يرى أحد موتك.
أحس باختناق في الصدر، والجالسون بقربي لا يلتفتون. عيون مجتمعة على صورة. صورتك. تعليقات تأتي من مكان مجهول، لتذكر بالعذاب الذي يظل عذابك. والعالم عاجز عن أن ينظر إليك وإلى موتك. بعين الفجيعة. أيها الشهيد، في وحدتك، لم تعد تطالب بمحاكمة العالم الصامت. أنت تريد موتك اختيارا. بحريتك. على أرض هي أرضك. ولا تحتاج لمن سيدلك على حدودها. تستنشق الهواء كما استنشقه آباؤك وأجدادك، جيلا قبل جيل، في الممالك الغابرة، وأنت بعدهم تنطق باسم الأرض، وباسم شعب هو ابن أرضك وتاريخك.
جثمان يترنح، في الهواء. مخترقا جغرافية العذاب الذي هو الدليل على الشعب الفلسطيني في عصرنا الحديث. والجثمان لا يتوجع. هذا مؤكد. كان من قبل جسد شاب غادر البيت. ثم في الطريق، على الطريق الألف، كان القتل. موت داهمه وهو يلقي بالتمرد على احتلال، لم يكن يملك سواك أيها الموت. لذلك فهو لا يتذكر جيدا هل هو مات أم هم. فقط، يموتون. وفي الحالتين معا، يتأكد من أنه لا يفهم جيدا كيف يموت في وقت يتشبث آخرون بالحياة. والحقيقة أنه لم يرد أن يموت. يموت فقط. وتلك هي المأساة عندما نفتقد تفسيرا ملائما لها، لشعب وحيد في موته.
(4 )
لربما كنت ابتعدت كثيرا عن الصورة. من المحتمل أن يكون ذلك حقيقة ما أنا حاولت القيام به، مرة تلو المرة. وفي نفسي شيء ما يشهق. قلت للشهيد وهو يقذف بالحجارة: إنك لا تعرف أن الموت أقسى من كونه لعبة. لكن الجثمان أمامي الآن، لا ينتبه لما كنت أردد عليه. في غفلة عن أعضائي، الجثمان المسجى، راسخ في الصمت، والعالم يتجاهل ما ينطق به. وهو لا يعبأ بذلك. يدرك جيدا أن بين العالم وبينه مسافات يستحيل تخطيها بالتمني وبالحق في العدالة. كثيرا ما كان ينظر إلى العالم من خلال جملة واحدة، هي الرغبة في الحياة، التي تأتي عفو الخاطر في صيغة حرية الموت.
ويصعب أن تدوم اللحظة على الشاشة. لي أن أجرب التقاط الصورة على شاشة أخرى، بعد قليل، في الوقت الموعود. سأجرب قناة غير عربية، محاولا أن أعثر على ما لم أنجح في العثور عليه، مصورا من الوجه الصامت، والعلم الفلسطيني وهو يغلف الجثمان، من الكتفين الى القدمين. صورة متشابهة لشبان متشابهين في الموت، يستديمون الانتفاضة، من شهر إلى شهر، مواصلين تمردا على احتلال، وغضبا لا يحتمل التأجيل.
(5 )
قد يجوز انتقال الصورة عبر الشاشات المتعددة، بلغات لا أفهم أغلبها، لكن ليس من المؤكد أن يكون القتل هو التسمية المنتقلة مع الصورة، فالصوت لا يملكه الشهيد. فقط، يموتون. والآخرون يقرأون على الشهيد ما يشاؤون، في عالم لم يتعلم كيف يبكي للموت، كيفما كان الموت. وهو لأجل ذلك لا يقدر على فهم ما معنى أن يموت فلسطيني على أرض، هي أرضه، باسمه مدونة، وبموته تستمر في الوجود. رغم أن الشهيد كان يجرب أن يقذف الحجارة، مجردا من سلاح. وفي يده كانت الحجارة. رفضا لاحتلال.
يموتون. كأنهم يموتون. ولا أصدق أن هذا الموت يتشكل كل يوم. وفي العذاب تصبح الصورة أكثر غموضا مما عهدناه، لأن الشهداء، كانوا دائما، فقط، يموتون.
8-12-2000

محمد بنيس: شاعر من المغرب
الرد مع إقتباس