همتت
[size=5][font=Arial Black]وكانت أولى هذه الخطط الإيعاز لإيران ، بعد أن أصبح الخميني زعيمها غير المنازَع ( 1979 ) ، برفع شعــار (( تصديــر الثورة )) ، مستغلة في ذلك وجود أعداد كبيرة من الإيرانيين في معظم دول الخليج ، إلى جانب حقيقة أن جزء غير قليل من سكان هذه الدول من أتباع المذهب الجعفري ، المتعاطفين في معظمهم مع الخميني ، قائد الدولة الوحيدة الحاملة للواء التشيُّع في المنطقة .
وبالفعل قام أنصار الخميني في بعض هذه الدول بتحركات نشطة أزعجت الحكام ( وخاصة في الكويت ) ، ولكن هؤلاء الحكام سرعان ما سيطروا على الوضع ، وأوقفوا التحركات الإيرانية داخل دولهم عند حدها . وكان من الطبيعي أن لا تدفعهم هذه التحركات في النهاية لطلب الحماية الأمريكية .
وجربّت أميركا بعد ذلك خطة أخرى ، تمثلت في حفز الاتحاد السوفيتي على احتلال جارته أفغانستان ( 1979 ) . فقد كان عميل أميركا بابراك كارمال منفياً في تشيكوسلوفاكيا . وفجأةً عاد كارمال إلى كابول ليتزعم انقلاباً عسكرياً رفع لواء الشيوعية . وأدى هذا الانقلاب إلى نشوء حالة من الاضطراب عمّت أفغانستان ، مما جعل الاتحاد السوفيتي يهبّ لنجدته . ومع أن أميركا نفت علمها بالحشود السوفيتية على الحدود الأفغانية ، إلا أن أقمار التجسس التي كانت تملكها ، والتي يُقال أنها تستطيع تحديد أي شيء بحجم السيجارة على الأرض ، لا يمكنها أن تخطئ وجود الحشود التي بلغ عدد جنودها حوالي 80 ألفاً . وما يؤكد معرفة واشنطن المسبقة ورضاها عن العملية إعلان الإدارة الأميركية بأن لروسيا مصالح أمنية حيوية في أفغانستان ، وذلك عقب الغزو بأيام قليلة .
وبالغت واشنطن في تصوير مخاطر هذه العملية على دول شبه القارة الهندية ومنطقة الخليج . وأطلقت على الأقطار المعرّضة للخطر السوفيتي المزعوم وصف (( قوس الأزمات )) .
وفي هذه الأثناء أعلن كارتر أن الخليج منطقة حيوية لأمن الولايات المتحدة ، وهو الإعلان الذي عُرف فيما بعد باسم (( مبـدأ كارتر )) . كما أرسل زبيغنيو بريجنسكي ، مستشاره لشؤون الأمن القومي ، إلى باكستان ، في مهمة طارئة . وأخذ يتحدث بريجنسكي عن الخطر الشيوعي الداهم ، مذكراً بالأطماع الروسية القديمة في الوصول إلى المياه الدافئة ، وضرورة التصدي لها من دول المنطقة .
ونشط عملاء أميركا وغيرهم في المنطقة في إرسال (( المجاهدين )) إلى باكستان ، للعبور منها إلى أفغانستان ، والمشاركة في التصدي للشيوعيين ( الكفرة ) ، ودرء (( خطر الإلحاد )) عن بلاد المسلمين ، وكأن الرأسمالية التي تحمل أميركا لواءها ليست كافرة ، ويهمها أمر الإسلام والمسلمين .
وأخذ المسؤولون الأميركيون يتوافدون على دول الخليج ، مهولّين من الخطر الشيوعي ، وعارضين على هـذه الدول الحماية الأميركية . غير أن دويلات الخليج ، وحكامها كلهم من عملاء الإنجليز لم تنطلِ عليهم هذه الحيلة ، ورفضوا الاستجابة لواشنطن .
وهنا تفتق ذهن المخططين الأميركيين عن إشعال الحرب بين العراق وإيران على نحو يجعل الرعب يدب في قلوب حكام الخليج . وبدأ التوتر يتصاعد بين العراق وإيران استجابة لرغبة واشنطن حتى بلغ الأمر حد الانفجار . فبادر صدام حسين بمهاجمة إيران ، وركّز هجومه البري على ما تُسمى (( عر بستان )) ، الواقعة في الجنوب الغربي من إيران . وتظاهر حاكم العراق بأن حربه وقائية ، في ضوء رفع إيران لشعار (( تصدير الثورة )) ، واستجابة بعض العراقيين الشيعة لهذا الشعار ، والقيام بقلقلة أمن العراق .
وهكذا اندلعت حرب ضروس بين الجارتين المسلمتين استمرت ثماني سنوات ، وحصدت الأخضر واليابس في الدولتين ، وخاصة في العراق . وبعد اشتعال هذه الحرب بأيام ، عقد وزيرا خارجية أميركا والاتحاد السوفيتي ( إدموند ماسكي وأندريه غروميكو ) ، اللذان كانا يحضران الدورة العادية للجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك ، اجتماعاً دام ساعة ونصفاً تركز البحث فيه على الحرب العراقية ـ الإيرانية ، أصدرا بعده بياناً مقتضباً فحواه أن الدولتين تقفان على الحياد من هذه الحرب ، وتدعوان الدول الأخرى لعدم التدخل أو تزويد أي من الطرفين بالسلاح ولم يخلُ البيان بالطبع من دعوة الدولتين لوقف العمليات الحربية .
ودلّ هذا البيان بشكل لا لبس فيه على أن الدولتين اللتين كانتا تُسميان بالعملاقين راضيتان عن استمرار الحرب ، وبذلك تكون الدولتان قد تجاهلتا دورهما الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة والمتمثل في الحفاظ على (( الأمن والسلم والدوليين )) ، باعتبارهما من الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن . أما عملاء بريطانيا في المنطقة فقد اضطروا للوقوف إلى جانب العراق بالمال وأحياناً بالرجال حتى لا ينهار ما اعتبروه خندقهم الأمامي في وجه الخطر الإيراني . ولوحظ أن هذه الحرب ظلت طوال سنواتها الثماني تتركز حول البصرة ، في إشارة واضحة إلى الهدف منها . فالبصرة كما هو معلوم قريبة من حدود الكويت . زعيمة دويلات الخليج في ذلك الوقت . وتخويف الكويت واستجابتها للحماية الأميركية من شأنهما أن ينعكسا على باقي دول الخليج ، التي كانت تنظر للكويت باعتبارها قدوتها .
صحيح أن الكويت كان يتملكها الخوف كلما كانت إيران تحقق مكاسب عسكرية
في منطقة البصرة ، ولكن هذا الخوف لم يدفعها لطلب الحماية الأميركية ، واكتفت بمد العراق (( بوابة العرب الشرقية )) بالأموال اللازمة لشراء السلاح . ومن باب التضييق على دول الخليج بوجه عام ، والكويت بوجه خاص ، أوعزت أميركا لصدام بتوسيع نطاق الحرب ، ومدّها إلى ميـاه الخليج .
وهكذا بدأت الطائرات العراقية بقصف ناقلات النفط الإيرانية في مياه الخليج . واعتبرت إيران هذا العمل مسوِّغاً ليس للتعرض للسفن العراقية وحدها ، وإنما لكل السفن المتجهة إلى موانئ الخليج ، وخاصة الكويت ، نظراً لأنها كانت تقدم الدعم المالي لصدام .
وهنا اشتدت مخاوف دول الخليج ، بما فيها الكويت ، مما جعلها تقبل برفع الأعلام الأميركية وغيرها على السفن التجارية المتجهة لموانئها ، وخاصة ناقلات النفط والغاز .
ورأت أميركا في هذه البادرة علامة مشجّعة ، وإن كانت غير كافية . فرتبت الأمور لزيادة مخاوف الكويت لعلها تستسلم . وتمثل هذا الترتيب بقيام صدام بتسليم شبه جزيرة الفاو لإيران في عملية عسكرية سريعة استغرقت ليلة واحدة فقط . وكان هدف أميركا من ذلك منح إيران منصة لإطلاق صواريخها الصينية من نوع سيلكوورم على الكويت ، حيث لا يزيد مدى هذه الصواريخ عن مائة ميل ، ولكنه مدى كاف لوصول الصواريخ للكويت .
والمتأمل في احتلال إيران للفاو ويدرك بسهولة أن الفاو منطقة لا قيمة استراتيجية لها فيما يتعلق بالحرب ضد العراق . إذ تفصلها عن باقي الأراضي العراقية عوائق طبيعية كأداء ، نظراً لكثرة السبخات والمستنقعات التي تفصل بينها وبين منطقة البصرة . ومع أن الحرب استمرت بعد احتلال الفاو مدة طويلة نسبياً إلا أن إيران لم تستفد منها أيّ شيء في عملياتها ضد العراق . والشيء الوحيد الذي استفادته من الفاو هو ضرب الكويت بالصواريخ ، وإثارة ذعر حكامها وأهلها . وليس أدل على أن احتلال الفاو كان بهدف تخويف الكويت من قيام السفير الإيراني في الكويت صبيحة يوم الاحتلال بالاتصال بأمير الكويت ليقول له : (( أصبحنا جيران )) .
|