الموضوع: صور وتعليق
عرض مشاركة مفردة
  #709  
قديم 01-05-2006, 09:04 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي

- وضمن هذه المحاولة لجأت الإمبراطورية إلى حروب رخيصة تستغل بطش الصدمة والرعب Shock &Awe فى مناطق ضعيفة ورخوة بأقل التكاليف، كى تظهر هول الجحيم الذى أعدته لمن يعصي، وكذلك تحولت أفغانستان وتحول العراق إلى ساحات دم ولهب - مأساتها أنها لا تعرف فى معظم الأحيان هدفا واضحا أو خطة إستراتيجية مدروسة وعلى أى حال فقد جاءت النتائج الواقعة مغايرة للمطامع والغزوات.
7- وإذا عُدت الآن إلى مقولة صراع الحضارات أو حوارها فربما تكون النقطة الجوهرية أنه يتحتم التفرقة باستمرار بين شراكة الحضارة وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار.
وهنا فإن حقائق الحضارة تمنع الاستيلاء عليها لحساب أى طرف، كما ترفض التنازل عن الحق فيها تحت أى وصف.
8- يترتب على التمسك بالحق الحضارى ورفض أى استدراج إلى الإزاحة أو العزل بمقولات الصراع أو الحوار - لابد أن يصاحبه إدراك وتصميم يصون هذا الحق عن التورط فى صدام أعمى أو فى جدل عقيم - وذلك وضع يشبه إلى حد ما وضع من يتمسك بحقه فى أرضه.
- إذا أراد سندا لهذا الحق بوسائل الصراع، فلابد له من القدرة تعزز الحق.
- وإذا أراد سندا لهذا الحق ببلاغة الإقناع، فإن سحر الكلمة لا يغنى عن كفاءة الفعل، والقدرة على الفعل هنا ليست السلاح، بل لعل السلاح آخر وسائلها، وإنما وسائل القدرة هى بذاتها وسائل العصر.
وقد يكون السياق فى هذا الموضع مناسبا لإشارة نحو ما تستطيع القدرة أن تحققه حتى فى مواجهة التحيزات الصارخة، وفيها ما نسميه ازدواجية المعايير فى السياسة الدولية.
-قبل سنوات وحين كان لهذا الإقليم العربى الإسلامى بعض القدرة - فإنه تمكن من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يعتبر الصهيونية نوعا من أنواع العنصرية - لكنه بعد سنوات وعندما حل العجز محل القدرة سقط ذلك القرار، وكان العرب المسلمون بين الذين صوتوا لإسقاطه، ثم صدر بدلا منه قرار يعتبر مناقشة المحرقة اليهودية سواء فى وقائعها أو فى أعداد ضحاياها جريمة إنسانية تستوجب العقاب.
ولم يكن القرار الأول مجرد ازدواجية معايير لصالح طرف، ولا كان القرار الثانى مجرد ازدواجية معايير لصالح الطرف الآخر، لكنه فى الحالتين كان حركة موازين ترجح أو تخف وفق ما يسندها من إرادة الفعل - وقدرة الفعل!-.
ويستلفت النظر أن الثقافات الصينية والهندوكية لم تهدر وقتا غاليا فى حكاية صراع أو حوار الحضارات، ففى هذه الثقافات الآسيوية كانوا على يقين من أنهم شركاء بثقافاتهم فى المحيط الواسع، وبهذا اليقين أدركوا أن وسيلتهم الرئيسية لتحقيق أهليتهم فى حق الشراكة - أن يبنوا من وسائل القدرة على الفعل ما يمنع مهانة الظلم، أو استعلاء الاحتكار، أو الاجتراء على نفى شراكة الآخرين.
ومن المدهش أن ثقافات الصين والهند والتى كانت الأبعد بالمسافات عن البحار المركزية الأولى للتدفق الثقافى إلى المنبع وإلى البحر وإلى المحيط - أظهرت تمسكا وثيقا بحقها، بينما تخبطت ووهنت ثقافات الشرق الأدنى وهى الأقرب والأكثر إسهاما فى الكل الحضارى المشترك، فهى التى أعطته الأديان السماوية كلها - وبالذات المسيحية - التى نسمع منهم الآن أنها الدعوى الحضارية الأولى لمراكز الغلبة الراهنة.
-أليس لافتا للنظر مرة ثانية أن مذاق طعام حوض الحضارة الصينى وجد طريقه ليصبح انتشارا عالميا واسعا، وأخرج تنويعات مختلفة على مذاقه الأصلى يابانية وتايلاندية وفيتنامية.
كما أخرج حوض الحضارة الهندى بدوره مذاقه ولكن بأسلوب آخر - فإذا كانت إنجلترا قد احتلت الهند بجيوشها قرنين من الزمان، فإن المذاق الهندى يحتل بريطانيا إلى آخر الزمان بمشروب الشاى ومسحوق الكاري-.
9- ومن سوء الحظ أن الثقافة العربية - الإسلامية المعاصرة بتأثير ما ترسب فيها من شوائب وعوالق، وما أصابها من ضعف ووهن، وما لحق أصحابها من عقد بسبب طول مقاساة غلبة الفاتحين وسيطرة المستبدين - كانت مهيأة على نحو ما لمحاولة الإقصاء والاستبعاد من شراكة الحضارة.
وحين قلنا بصراع الحضارات - فقد اعترفنا بالعزلة.
وحين دعينا - أو دعونا للحوار- فقد ذهبنا لما يشبه طلب إذن باللجوء من متظلم إلى متحكم، ولم ندرك أن الحقوق ملكية أصحابها إذا استطاعوا إثبات جدارتهم بها، وليس تواضع الآخرين للسماح لهم ببعضها، ثم إن كل حوار على الحوار بينهم وبين غيرهم لا نهاية له، خصوصا إذا وقع - وهو يوشك أن يقع الآن - وانزلقت العلاقات بين الأطراف إلى صراعات سياسية تتحول بسرعة إلى حروب هويات دينية وعرقية، فعند هذه الدرجة أى كلام يكون بين غرباء أو بين أعداء، عداوة لا تحتمل غير انتصار طرف وهزيمة آخر!- وهنا يموت الحوار أو ينتحر مهما قلنا ومهما قالوا.
-أليس لافتا للنظر مرة ثالثة أن الحوض الحضارى لثقافات الشرق الأدنى لم يستطع أن ينشر مذاقا مميزا له خارج إقليمه، ولعل ما عنده تعرض لتلبك غذائي، كما تعطلت صلته بالحضارة بسبب نوع آخر من التلبك الناشئ من تخمة التيارات المتضاربة التى أصابت المنطقة ولوثتها!-.
10- والغريب أننا حين قبلنا فكرة صراع الحضارات أو حتى حوار الحضارات بالمنطق الذى قُدم لنا - فإننا سلمنا بالقسمة، أى أننا تنازلنا عن الشراكة من أول لحظة. ودخلنا فى حوزة الآخرين وعلى جدول أعمالهم.
ربما كان الأولى أن نبدأ حوارا مع النفس نعرف فيه بالضبط من نحن؟ - وأين نحن؟ - وماذا نريد؟
وكان مثل ذلك الحوار مع النفس كفيلا بتأكيد عدة مسائل:
- أولها: الوعى بالحق فى شراكة الحضارة دون إقصاء أو استبعاد.
- وثانيها: الجدارة بهذا الحق عن طريق دعمه بقيم العصر وأولها روح الحرية والعلم والقانون، دون العودة إلى الماضى والبحث فى كهوف التراث المهجورة وليس فى حدائقه الزاهرة عن سبب للتقوقع بعيدا عن قيم العصر بدعوى الخصوصية، وهو نوع من الهرب مقصود إذ ليس هناك تصادم بين التنوع المحلى للثقافات وبين المشترك فى الحضارة الإنسانية - بل هناك تفاعل وتدفق مساير بالطبيعة لحركة التاريخ.
- وثالثها: أننا فى حاجة إلى فهم ودرس واستيعاب وحوار متواصل مع الدنيا كلها - ولكن فى قضايا ومعضلات الرقى والتقدم، فهناك طلبنا وهو أولى من تحرير عريضة لطلب عضوية فى نادٍ لابد أن يقبل بنا مجلس إدارته وعن طريق قبول التماسنا أو التحفظ عليه بكرات بيضاء أو كرات سوداء، فنحن هناك فى ذلك النادى الحضارى من لحظة تأسيسه وضمن أوائل المؤسسين، لكنها عضوية غير عاملة - خاملة إذا جاز التعبير.
- ورابعها: تجنب فخاخ الاستدراج والاستنزاف بسبب ما يفعله آخرون من أصحاب الغرض فى الإقصاء والاستبعاد، هؤلاء الذين تنبهوا بسرعة إلى ما لحق بالعقلية العربية الإسلامية جراء عصور القهر والظلام، فإذا هم يحاولون تثبيت الانكسار وتعميقه فى العقل وفى الإرادة لدى العرب والمسلمين، والسبيل إلى ذلك استثارتهم بين الحين والآخر بما يدفعهم أكثر وأكثر إلى عزلة البحر الميت وملوحة مياهه ومرارتها.
لقد اكتشفوا أنه يكفيهم أن يلمسوا الثقافة العربية الإسلامية فى عزيز عليها، فإذا هى تستثار وتغضب- ثم تتراجع وتتباعد بحيث تعزل نفسها وتتنازل أكثر وأكثر عن نصيبها فى شراكة الحضارة.
والمحزن أن هناك من اعتدى على المقدسات العربية عملا - وليس لمسا- حين سيطر على المسجد الأقصى فى القدس. وفى نفس الاتجاه فإن ذات الطرف رسم خنزيرا وكتب عليه اسم الرسول الأعز الأكرم.
وهناك - غيره - قام بتوظيف الدين الإسلامى - قديمه وجديده - فى حرب باردة عليه - ساخنة على شباب عربى ومسلم فى أفغانستان - ثم أمسك فى النهاية بمن حاربوا لحسابه ووضعهم وراء القضبان فى جوانتانامو، ثم داس بالأقدام على كتابهم الكريم ومزق صفحاته ورماها فى المرحاض أمام عيون الجميع فى المعسكرات وخارجها.
وفى هذا كله لم يغضب أحد - بل تستر كثيرون.
ولكننا مع ذلك رحنا - نحن الذين لم نغضب من الفعل - نثور باللمس كأننا كنا نبحث عن أهداف سهلة رخيصة.
حدث ذلك سابقا فى تجربة قريبة - هى رواية آيات شيطانية.
نتيجة الثورة والغضب - زادت شهرة كاتبها.
وتكرر على نطاق أوسع فى تجربة أخيرة - هى الرسوم الدنماركية.
نتيجة الثورة والغضب - تكرار نشر الرسوم فى عدد من عواصم الدنيا، وكذلك سمع الناس عن رساميها وناشريها لأول مرة فى حياتهم.
كأن كاتبا - حتى لو كان اسمه سلمان رشدى - يستطيع أن يعتدى على الإسلام، أو كأن رسام خطوط لا يكاد الناس يعرفون اسمه فى صحيفة مجهولة يستطيع إهانة الرسول الأعز والأكرم - أو كأن وزيرا إيطاليا شديد الحمق يستطيع أن يشتم الإسلام لأنه ارتدى قميصا عليه رسوم بالغة الانحطاط عديمة القيمة!
لكنهم اكتشفوا وجربوا كيف يحركون من ردود الفعل ما يستثيره الضعف ولا تأبه به القوة.
وفى المحصلة فإننا نجد أنفسنا بالواقع وبسهولة شديدة - محزنة فى نفس الوقت - نساعد على تحويل صراعات سياسية إلى حروب هويات حضارية تخرج غاضبة منسحبة من شراكة التقدم الإنسانى الجامع والشامل مع أى استفزاز - يتحول بالإثارة إلى فتنة، ويتحول بالفتنة إلى حرب، ويتحول بالحرب إلى قطيعة، ويتحول بالقطيعة إلى حصار للذات، ومن سوء الحظ أن حكومات عربية إسلامية - بوعى أو بغير وعى - تصرفت حيال الفتنة بقدر كبير من قصر النظر فى إدارة الأزمات إن لم يكن بقدر كبير من سوء النية بمحاولة استغلال الفتنة للإلهاء والتغييب.
وقد أضيف لاستكمال الرؤية والرأى - أن رغبة الاستغلال لم تقتصر على الحكومات، وإنما تعدتها إلى مؤسسات وأفراد، بادعاء أن الترياق الشافى من الفتن يتحقق بالوفود تذهب والوفود تجيء، وبالمؤتمرات تعقد والمؤتمرات تنفض، وبالأوراق تُقرأ ثم بالأوراق تُنسى لكى يجرى تدويرها وتعود إلى إنتاج نفسها من جديد.
تلك كلها باختصار وساوس تجمح بأصحابها إلى حيث لا يريدون ولا يقصدون، فإذا هى عودة من شواطئ المحيط الإنسانى الواسع وحيويته الخلاقة إلى دروب وعرة موحلة تؤدى إلى البحر الميت وموجه الراكد وأملاحه الزائدة!!

محمد حسنين هيكل