عرض مشاركة مفردة
  #8  
قديم 09-10-2001, 12:28 PM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Thumbs up

(تحقيق الحرية وصيانتها نصاً وواقعاً)

شكّلت (الحرية) وما تزال أهم أهداف الإنسان المتحضّر، وأهم دوافعه في بناء الحضارة وتطويرها، كانت الحرية الدافع الأجلّ وراء جل الأعمال الواعية التي عرفها تاريخ البشرية، وكانت الحرية في بعض فترات التاريخ حلماً ذهبياً لا يتمتع به إلا الأقوياء الذين ولدوا على فراش من حرير، وكانت العبودية والرق نصيب الضعفاء الذين لا يملكون حوْلاً ولا طوْلاً وكان قدرهم أن ينتسبوا إلى أمم مستضعفة أو أسر مستعبدة، وكانت الحرية تنتقل بالتوارث والرق كذلك، إلا أن أبواب الرق كانت مفتوحة على مصراعيها، تزداد باسترقاق المدينين والأسرى، بينما كانت بوابات الحرية مقفولة لا يلجها أحد إلا بشق النفس وضمن ظروف استثنائية.

وحفرت العبودية في ضمير البشرية وعقلها جرحاً عميقاً، استمر إلى عقود ماضية قليلة، وكان أقصى أنواع الرق ذلك الذي يبرره الكهنة ورجال الدين، ويعتبرونه حقاً طبيعياً للأقوياء وللأغنياء، وكان الرقيق محروماً من إنسانيته يستغرب مالكوه أن يعبّر عن أحاسيسه كما يفعل الأحرار.

وجاء الإسلام ليحقق في أرض الواقع كل مظاهر الفطرة البشرية، وليعيد للإنسان كرامته، وحقوقه وعلى رأسها (الحرية)، التي أعطاها معنى أبعد بكثير مما عرفته فلسفات الأمم السابقة، فالحرية أبعد بكثير، وأعلى بكثير، وأعظم بكثير من أن تكون صكاً يحتفظ به المرء ليبرزه كلما دعت الحاجة.

(الحرية) في التصور الإسلامي أن ينعتق الإنسان من كل ما يكبله ويحول بينه وبين إنسانيته، فكرةً كان أو قانوناً أو عادةً أو إدماناً، ولذلك فك الإسلام ارتباط الدين والغيب والعبادة عن الكهانة، ولم يجعل في صفوفه مكاناً لرجل دين يستولي على حق تفسير النصوص الدينية، أو ينفرد بعلاقة خاصّة مع الرب المعبود، أو يتحول كلامه إلى تشريع فيحل ما يراه حلالاً ويحرم ما يراه حراماً.

لقد جعل الإسلام العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة مباشرة، لا يتدخل ولا يتوسط بينهما أحد: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} [البقرة/186]، والمسلم الذي يظن أنه يحتاج إلى وساطة بينه وبين الله يكون كالمشركين الذين قالوا عن الأصنام التي يسجدون لها ويقدمون لها مظاهر الولاء والطاعة: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر/3]، وقمة الحرية - في التصوّر الإسلامي - قمة العبودية لله، ككفتا ميزان تعلو إحداهما لتهبط الأخرى، كلما قدمت تنازلات في خط العبودية لله كلما تنازلت عن درجة حريتك، وكلما ارتقيت في درجات عبوديتك لله كلما ارتفعت في درجات حريتك.

ولم يكرس الإسلام العبودية داخل إطارها الموروث من المجتمعات الجاهلية وتراكم مفاهيمها المتراجع عن الفطرة وعن إنسانية الإنسان، وإنما ضيَّق أبواب الرق، وفتح أبواب التحرير، فجعل العتق عبادة يتقرب بها المؤمن إلى الله، كما جعله كفّارة ينفذها المسلم كلما ارتكب ما يستوجب التكفير كحنث اليمين والقتل الخطأ، كما شجّع على المكاتبة( )، وجعل الله للمكاتب نصيباً في الزكاة المفروضة، قال تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكينِ والعاملينَ عليها والمؤلّفةِ قلوبُهُم وفي الرقابِ والغارمينَ وفي سبيلِ اللهِ وابن السبيلِ فريضةً من اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ} [التوبة/60]، {والذين يبتغون الكتاب مما ملَكتْ أيْمانُكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور/33]، وجعل للرقيق المكاتب نصيباً في الزكاة، وكان (فك الرقبة)( ) من أعلى القربات التي عرفها المجتمع المسلم، وهي تشريع إسلامي غير مسبوق.

لقد هيأ الإسلام كل أسباب (الحرية) وضيق كل أسباب (العبودية) وأطلق أسر العلم والمعرفة ليصبحا في متناول الجميع، أحراراً وعبيداً، ذكوراً وإناثاً، عرباً وعجماً، مسلمين وغير مسلمين، فنهى عن كتمان العلم وجعله جريمة في الدنيا والآخرة، ونهى عن عدم التعلم وجعله كذلك جريمة في الدنيا والآخرة، ورفع بالعلم ما لم يرفع بالمال، ولا الطبقة الاجتماعية، ولا بالعِرق، قال تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة/11]، وقال سبحانه: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [الزمر/9].
وبالعلم يعلو الفرد على أصحاب المال والسلطان الجهلة، بغض النظر عن أصله ونسبه وعِرْقه، قال سالم بن أبي الجَعْد، (رافع الأشجعي، المتوفى حوالي100هـ): (اشتراني مولاي بثلاثمائة درهم وأعتقني، فقلت: بأي شيء أحترف؟ فاحترفت بالعلم، فما تمّت لي سنةٌ حتى أتاني أميرُ المدينة زائراً، فلم آذن له).

وانسحب مفهوم الحرية في الإسلام على كل ميادين حياة المسلم، فلا يصح اعتناق الإسلام إلا باختيار حرّ، ولا يصح تعاقد بين اثنين إلا باختيار حرّ، ولا يصح نكاح ولا طلاق إلا باختيار حر، فالإكراه لا تترتب عليه آثار شرعية وقانونية كتلك التي تترتب على الحرية، (والحرية السياسية في الإسلام فرع لأصل عام هو حرية الاختيار، فقد جاء في الحديث: (لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسَكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)( ). بل الجهر بالحق في الإسلام واجب وليس رخصة، والواجب عند الأصوليين (هو الذي يذم تاركه ويلام شرعاً بوجه ما).

وأي حياة للفرد أو الجماعة تحت قهر السيوف، وسلطان الظلم، وانعدام الاختيار، وظلمة السجون والمعتقلات؟ أي حياة هذه بدون حرية صحيحة ملتزمة، وشورى واعية قاصدة، وحفظ للكرامة الإنسانية، واستيفاء للحقوق وأداء للواجبات؟ وأي حياة هذه والمرء يراقب كلماته ويمسك بشفتيه ويخشى أن تفضحه عيناه أو جوارحه، ولا يأمن على نفسه من نفسه أو من أقرب المقربين إليه، فعيون الظلم مبثوثة والتهم جاهزة والزبانية على أحر من الجمر!

وأي دولة هذه التي تحيط نفسها بجيش من المنافقين الذين ينعقون مع كل ناعق لأن الفرد فيها فقد كرامته، وأعدم شخصيته، وتخلى عن كل ما له علاقة بالتفكير أو التدبّر؟ كيف تقوى أمة من الأمم أو دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات أو جماعة من الجماعات أو أسرة من الأسر، على مواجهة تحديات الحاضر وبناء المستقبل بأفراد ليس لهم من الإنسانية سوى الهيكل الخارجي؟ وبعد ذلك يخشى أحدهم التصرف بدون إذن (ولي الأمر) ولو كان لألصق الأمور الشخصية؟

إن الشخصيات المهزوزة لا تقوى على حمل رسالة ولا أداء أمانة ولا نشر دعوة ولا مواجهة باطل ولا إحقاق حق ولا إنشاء حضارة، لأن ذلك كله لا يقوم بدون مبادرة وإبداع، ولا مبادرة وإبداع مع العبودية، ظاهرة كانت أو مقنّعة.

إن التنصيص القانوني على حفظ الحرية، وتأصيلها بالتربية وبكل وسيلة ممكنة حتى تصبح صفة شخصية لكل مواطن، وبذل كل جهد مطلوب لرعايتها وحمايته، باب من أهم أبواب بناء الفرد والجماعة، والحرية حصن الأمم الحصين، ومدخلها الصحيح لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والاستفادة من الطاقات والقابليات، ودفع الإحباطات، وسد الثغرات، وتأمل كلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت728هـ) على عاقبة الظلم: (الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة)( )، وقبله قال الطرطوشي (محمد بن الوليد، ت520هـ): (إن السلطان الكافر الحافظ لشروط السياسة الاصطلاحية أبقى وأقوى من السلطان المؤمن العدل في نفسه، المضيع للسياسة الشرعية، والجور المرتب أبقى من العدل المهمل، إذ لا أصلح للسلطان من ترتيب الأمور، ولا أفسد له من الحكم، ولا يقوم سلطان إيمان أو كفر إلا بعدل نبوي أو ترتيب اصطلاحي).

اقرأ ذلك لتدرك أبعاد تأصيل العدالة في بناء الأمم واستمرارها وتحقيق عزتها، وهل العدالة؛ بكل مفرداتها وتجلياتها؛ إلا بنت الحرية البارّة؟

= يتبع =
__________________
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك/22]