عرض مشاركة مفردة
  #13  
قديم 18-06-2007, 06:50 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

بيئة نمطية التفكير السياسي وعلاقتها بموضوع الوحدة والنهوض
تناول الغذاء وارتداء الملابس وتصاميم الأبنية، تخضع لعوامل معقدة، تجعل من سيادة نمط في فترة ما على بقية الأنماط، التي تختفي وتتنحى عن شاشة ملاحظة الناس لها لمدة من الوقت، قد تطول، وقد لا تعود نهائيا، وقد تعود مرة أخرى عندما تعود الظروف التي ساد بها النمط .. وتسمى (المودا أو الموظة) ..

قد يضجر من يقرأ تلك الكلمات، ويتساءل: ما علاقة ذلك بموضوع الوحدة؟ ولكن لو تأمل أي مثقف ـ من خلال اطلاعه ـ على الكتابات التي عبر عنها مفكرون وأدباء وسياسيون منذ نهاية القرن التاسع عشر وتابع ما كتب بعدها حتى أيامنا هذه، لأدرك على الفور مطابقة ما تم الإشارة إليه مع تلك الحالة ..

نستطيع تقسيم تطور الكتابات السياسية والتفاف النخب حولها منذ نهاية القرن التاسع عشر ليومنا هذا الى ثلاثة أقسام: الأول: إسلامي إصلاحي ليبرالي، والثاني: اشتراكي قومي، والثالث: المشروع الإسلامي الجديد ..

أولا: زمن التوفيق بين الإصلاحية الإسلامية والليبرالية الغربية :

سادت منطقة المشرق الإسلامي في نهايات القرن التاسع عشر، مشاعر تتحفز للخلاص مما هي فيه من فساد وانحطاط في الأداء، من حكومتين إسلاميتين أو تدعيان التمسك في الإسلام، (العثمانية: ممثلة للمذهب السني) و(القاجارية في إيران ممثلة للمذهب الشيعي) .. في حين كانت السلطات في البلدين الإسلاميين تُضَمِن الولايات لولاة مقابل مبالغ يدفعونها لحكومة المركز أو للسلطان، والوالي يقوم ببيع القرى والمدن والقصبات لمسئولين محليين، فانحطت الخدمات التعليمية والصحية، وانحط أداء الجيوش المركزية، وكثرت ديون الحكومات في عهد السلطان (عبد العزيز 1861ـ1876) في الدولة العثمانية، والسلطان (ناصر الدين شاه 1848ـ 1896) في الدولة القاجارية في إيران. وعندما أصبح الدائنون من الدول الأوروبية يتدخلون في الصغيرة والكبيرة في الدولتين، وبالذات فرض نظام المجالس النيابية أو المشرفة على شؤون الدولة، وكيفية دس عناصر صهيونية موالية للغرب، في الدولة العثمانية ـ بالذات ـ لم يستطع السلطان عبد الحميد الثاني من التخلص منها بشكل كامل عندما استلم الحكم، ولم يستطع أن يرتفع بشأن الولايات التابعة لإمبراطوريته، وفي تلك الأثناء كانت ولايات إفريقيا العثمانية تدخل بعلاقات مع الغرب، دون علم (المركز)، والحملات التبشيرية والطلاب الدارسون في أوروبا الذين كانوا يلحظون الفروق في نمط الحياة الغربية عنها في كل من إيران وتركيا وولايات تركيا، مما جعلهم يشكلون نخبا يكون لها دور في رسم شكل البلاد المستقبلي ..

عند كل ذلك ظهرت نخب إسلامية متأثرة بالطابع الغربي، تريد مزاوجة الطابع التراثي الإسلامي الشرقي مع الطابع الليبرالي الغربي، فظهر شكلان منهجيان في هذا الشأن:
أ ـ شكل يريد أن ينفذ من مدخل الثورة على كل ما هو قائم، أو يتبع أسلوب النصح للحاكم مع تحريض الناس على عدم القبول بالوضع القائم، وقد مثل هذا الشكل (جمال الدين الأفغاني) من خلال نصحه للسلطان العثماني، والسلطان القاجاري، (وقصته مع السلطان القاجاري معروفة) .. إضافة لكتاباته ومقالاته الكثيرة بشرح ما يريد ..

ب ـ شكل يريد أن يصل من خلال إقامة الدولة الدستورية المرتكزة على مبدأ الشورى، وهو الخط الذي سلكه المفكرون والفقهاء المؤمنون بالحرية والوحدة أو الجامعة الإسلامية، وهؤلاء على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم الدينية اجتمعوا حول مبدأ هو أن الديمقراطية البرلمانية ممثلة الأمة تساوي الشورى، وأن صيغة أهل الحل والعقد تساوي صيغة البرلمان .. وأن الاستبداد السلطاني هو صورة دخيلة على الإسلام .. وقد مثل هذا الشكل (عبد الرحمن الكواكبي) و (رشيد رضا) من (السنة) و(حسن نائيني) (شيعي نجفي إيراني) ..

وقد تطور هذا الشكل من دعاة التغيير والإصلاح، حتى أفرز مفكرين مختلفين، مثل (محمد عبده) و (خالد محمد خالد) و (علي عبد الرازق) وحتى (طه حسين).
وقد ابتهج الغرب لظهور مثل هذا الخط، فوافقوا على جزء من مطالبه، ورفضوا الجزء الآخر، مما دفع بظهور خط يؤيد التصادم مع النظم القائمة ويفرز حركات ثورية لحد ما، كحركة أحمد عرابي وسعد زغلول وغيرهم .. هذا الشكل قد تعايش مع المحتل وطور أداءه ضامنا عدم اصطدامه مع المحتل أحيانا وينوي التطور والنهوض أحيانا أخرى، فيقي الفساد مستترا وظهرت نخب استفادت من وجودها في السلطة لتصبح طبقة (باشوات وبهوات)، استمر تأثيرها في الحياة السياسية المصرية لوقت طويل .. هذا وينسحب الوضع على باقي البلدان العربية وبأسماء تختلف أحيانا، ولكن الشكل هو نفسه ..

ثانيا: زمن الاستقلالات والاشتراكية القومية :

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخروج دولتين قويتين منتصرتين، هما الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة لانتصار الإرادة الليبرالية الإمبريالية الغربية، والاتحاد السوفييتي، الذي استفاد من حروب التحرير ضد النازية في دول أوروبا الشرقية. في حين قدم الأمريكان لدول أوروبا الغربية الخارجة منهكة من الحرب، مشروع (مارشال) الذي أوصل في النهاية الى قيام حلف شمال الأطلسي لحماية منجزات الدول الغربية، قام الاتحاد السوفييتي بتشكيل ما سمي ب (المنظومة الاشتراكية) .. وتشكلت حدود فاصلة بين المعسكرين طالت ألمانيا نفسها من خلال (حائط برلين) .. ولكن لم تصل تلك الحدود والفواصل الى مختلف بقاع العالم، فقد قامت ثورة بالصين زاوجت بين الاجتماعي والاقتصادي لتحجز ربع سكان العالم عن المعسكرين، كما قامت إصلاحات وتطورات هائلة في الهند، وانشغلت أوروبا خلال عقد ونصف من الزمان في لملمة جراح الحرب العالمية الثانية، واستغلت بقية دول العالم التي كان معظمها يتوزع بين استعمار تلك الدولة أو تلك، ومن بين تلك الدول المستعمَرة دولنا العربية ..

لم يكن سجل الدول الغربية نظيفا ونزيها للتعامل مع قضايانا العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين، بل كان يعتمد الاستغفال والعدوانية المتذاكية. فمن اتفاقية سايكس بيكو الى وعد بلفور الى نقض عهود الغرب مع من وقف معهم من العرب في الحرب العالمية الأولى، الى قيام الكيان الصهيوني، والاعتراف به وتزويده بعوامل البقاء .. كل هذا أوجد حالة صدود من الارتكاز على معاونة الغرب، فكانت فترة الانقلابات العسكرية في منطقتنا العربية، ترفع شعارات معاداة الغرب والصهيونية وأعوانهما في المنطقة، وكان لا بد من تقوية وضعها العسكري والتأسيس لمرحلة نهضوية علمية تقنية اقتصادية، فكان الميل الى الكتلة الاشتراكية ومحاكاة شعاراتها المطروحة وبالذات تلك المتعلقة بالاشتراكية والتأميم وغيرها ..

ولو وقفنا قليلا مع نموذج (الحالة المصرية) وبالذات في الفترة بين عامي 1954 و1962 أي بين (فلسفة الثورة) والميثاق، واطلعنا في أدبيات الحالة المصرية في تلك الفترة، والكيفية التي نظرت بها الى ماضي مصر القريب لاستطعنا تكوين صورة كافية عما نتحدث عنه.. فالميثاق الذي نسب الى جمال عبد الناصر يرى في تتابع الأحداث داخل مصر كما يلي :

إن المأساة في عهد (محمد علي باشا) هي أنه لم يكن يؤمن بالحركة الشعبية التي مهدت له حكم مصر، إلا بوصفها نقطة وثوب الى مطامعه.

ويضيف: وهذه نافذة أوقعت مصر في براثن الاستعمار الذي كان قد تطور في ذلك الوقت من (مجرد احتلال المستعمرات واستنزاف مواردها الى مرحلة الاحتكارات المالية لاستثمار رؤوس الأموال من المستعمرات) [النص من الميثاق] و( كان مدخل ذلك وركائزه الاحتلال المباشر، والاعتماد على الأسرة الحاكمة والإقطاع) [ أيضا نص من الميثاق]

أما الثورة وقوى الإصلاح من عرابي الى سعد زغلول فهذه القوى (لم تستطع أن تمد اندفاعها الى ما بعد المواجهة السياسية الظاهرة من طلب الاستقلال) وبالتالي يضيف الميثاق (لم تصل الى أعماق المشكلة الاقتصادية والاجتماعية).

وهذه القوى أيضا (لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستشف من التاريخ أنه ليس هناك صدام على الاطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية) [من الميثاق]

لقد أسست الحالة المصرية نموذجا يكاد يكون متشابها في أكثر الدول العربية التي انتهجت نهجها .. وتعتمد ركيزتين أساسيتين : الأولى: المراهنة على الالتفاف الجماهيري، والانتباه الى موضوع التعبئة العامة والتحفز لمقارعة الاستعمار والقوى الخارجية. والثانية: مسألة تتعلق بدوائر الانتماء، وفي الخطاب الناصري، هناك وضوح في التعامل مع تلك الدوائر الثلاث(العربية، الإفريقية، الإسلامية) .. وما لبث الشعور بالثقة المفرطة في هذا الخطاب، إلا أن يتمطى نحو التأثير والتأسيس لمجموعة (دول عدم الانحياز) كقطب ثالث، لا مع الغرب ولا مع الشيوعية ..

ولما كانت الشعارات المطروحة في الخطاب الناصري، أوسع من أن تلبس بثوب الإمكانيات الضيق، الذي سرعان ما تفتق وظهرت من خلاله عيوب هذا الجسم المختل في بناءه، فلم تكن عملية بناء التقنيات والاقتصاد والكوادر تتلاءم مع الشعارات المطروحة، وبمجرد ما (نغز) دبوس (الكيان الصهيوني) هذا الثوب الضيق عام 1967 حتى تفتق الثوب القومي والاشتراكي وحتى حركة عدم الانحياز نفسها ..

ثالثا : عودة طرح المشروع الإسلامي :

عندما يتعرض فرد، ذكرا كان أم أنثى، الى مصيبة فإن عودته الى الله ستكون طبيعية، فنرى دعوات (الملحدين) جنب غرف العمليات لله عز وجل لإنقاذ مريضهم من الموت. وهكذا الأمم كلما تعرضت الى مصيبة وإحباط تكثر الأصوات المنادية بالعودة لله وللدين ..

ظهرت في العقود الأخيرة، التي تلت (نكبة) 1967 الثانية، تيارات تعتمد الرجوع للدين كمنقذ وحيد لما تمر به الأمة، وتبدو تلك التيارات لمن يراقبها من الخارج وكأنها طيف واحد لا خلاف فيما بينها، وهذه خدعة لا تنطلي على من يتمعن في أداء تلك التيارات ويراقب أداءها وسلوكها السياسي اليومي أو الدوري أو الذي يظهر في مناسبات دون غيرها .. فمنها من يعتمد أسلوب المواجهة العنيفة مع الخصوم ومنها من يعتمد أساليب حديثة ويقر بالوصول الى الحكم من خلال النضال الحزبي البرلماني .. وسنؤجل الحديث والخوض في تلك التفاصيل الى حين ..

لقد تأثرت تلك الجماعات كلها وعلى اختلاف طرقها في العمل وتحديد الأهداف، بكتابات سيد قطب، الذي تأثر هو الآخر بكتابات (أبو الأعلى المودودي) صاحب مقولة المجتمع الجاهلي.. وقد تلقيت (شخصيا) وأنا في صفوف (حزب التحرير) في أواسط الستينات من القرن الماضي، منهاجا تعليميا داخل الحزب، يعتمد (ظلال القرآن لسيد قطب) .. وكذلك تفعل جماعة الأخوان المسلمون ..

وقد نمت تلك الجماعات الدينية بشكل أساسي في مناخ تعثر التجارب اليسارية والقومية في الوطن العربي، لا بل اعتمدت (تصيد) أخطاء النماذج القومية واليسارية كمحور أساسي في بناء خطابها الأيديولوجي الفضفاض .. وتلك الجماعات التي لم تختلف عن غيرها في مسألة الفعل ورد الفعل، فإن كانت التجربة القومية قد سفهت وقللت من قيمة ما سبقها من تجارب، فإن التيارات الإسلامية تسفه منذ الآن ما هو قائم من تجارب، ولا تذكر أي إنجاز للدولة القومية، بل تركز على السلبيات وتسهب في الحديث عنها، كيف لا وسجلها نظيف من أي تجربة يمكن أن تنتقد عليها!. يتهيأ لها أنها ستقوم بدور فريد لا تشوبه شائبة ..

لقد غاصت تلك الجماعات الإسلامية والقومية، ونخب الدول الحاكمة ـ أي الناطقين باسم الدول الحاكمة الراهنة ـ في سجال مقيت، لا يقدم ولا يؤخر، لا بل قد يؤخر ويؤذي ويعيق أي محاولة جادة للخروج مما نحن فيه..

ومع ذلك هناك فرصة لتكون هناك فضاءات يتم بها نقاش الوضع القائم وكيفية الخروج منه، من خلال القبول بالآخر والاستماع للرؤى التي تحدد الكيفية التي يتم بها بناء الدولة، والكيفية التي يتم بها مراقبتها وضبط حالات الفساد فيها واجتثاثها وفق ضوابط يتم الاتفاق عليها من خلال خطاب أكثر وضوحا وأكثر تسامحا ..

هذه هي البيئة التي يتم من خلالها بحث شؤون مصيرية للأمة ومنها الوحدة والمشروع النهضوي ..
__________________
ابن حوران