عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 21-05-2005, 10:47 AM
الهلالى الهلالى غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2004
المشاركات: 1,294
إفتراضي

واستعد بارباروسا للمواجهة. ودعا المغاربة الذين استعبدتهم أوروبا المسيحية والاسبانية للدفاع عن حريتهم ومواجهة مستقبلهم. وساند السلطان واليه فأمده بقوة تضم ألفين من مقاتليه الانكشارية, كما أعلن مراسيم خاصة للبلاد التابعة للدولة لتوجيه مساعداتها الى الجزائر لمساندة الوالي المسلم في مواجهة للغزو الصليبي.

في يوم عيد سانت بارتلوميو 24 اغسطس, وصل الاسطول الاسباني الى مياه الميناء الجزائري, وهناك وقعت الكارثة.

فبعد ان نزلت بعض القوات الى الشاطئ, انقضت عاصفة رهيبة على الارماداـ الأسطول الاسباني, أفلتت السفن من المراسي, وتلاعبت الريح الهوجاء بالسفن فانفكت عقدها, وتحطمت حاملات المجاديف تحت ثقل الماء, والناقلات الثقيلة اندفعت لتتكسر على صخور الشاطئ, بينما تسابقت السفن الحربية لتبتعد عن السواحل الى عرض البحر, واصبحت ناقلات الجنود عاجزة وهي تتحطم على الصخور, وغرق مئات الرجال, ودمرت أكثر من عشرين سفينة, والذين استطاعوا النجاة من الغرق وقعوا أسرى. وكانت الحصيلة كما حددها المؤرخ الأسباني ساند أكثر من ثلاثة آلاف قتيل الى جانب أربعمائة أسير.

وقد بدت الأخلاقيات الكريمة لخير الدين بارباروسا وما يتمتع به من كرم وبطولة, حين نزل بنفسه ليمنع رجاله المغاربة المنقضين على من نجا من الغرق ليقتلوهم. وسجل التاريخ حواراً رائعاً بين خير الدين وأحد قادة الأسبان الاسرى.

قال خير الدين للقائد الأسباني: ألست ترى أن على القادة دائماً أن يحافظوا على كلمتهم ومواثيقهم?

وأجاب الضابط: انه أمر لا شك فيه.

وتساءل بارباروسا: فلماذا حدث أنه بعد موقعة تلمسان التي قتل فيها أخي, وبعد أن استسلم المقاتلون المسلمون. لجأ الأسبان الى قتلهم. لماذا لم يحافظ القائد على اتفاقه مع الترك الذين وعدهم بالحياة والحرية والذهاب الى حيث يشاءون. ثم أمر بقتلهم جميعاً?

وأجاب القائد: لم يقتلهم الأسبان بل قتلهم العرب.

وقال بارباروسا: هؤلاء العرب كانوا من المغاربة الذين استعبدتم وكانوا ينفذون أوامركم بقتل الأسرى. أليس من قبيل المعاملة بالمثل أن أصدر أوامري بقتلكم?

ولم يجد القائد الأسباني ما يقوله. وقال بارباروسا: ومع ذلك فقد أصدرت أوامر مشددة بعكس ما فعلتم أنتم. ولكي أؤكد لك أنني رجل مسلم شريف ـ بعكس قائدكم الذي لم يكن أهلاً للثقة, وانني سأحترم كلمتي خيراً منه, فقد وعدتكم بالحياة والحرية. فأما الأولى فها أنتم تحظون بها الآن, وأما الثانية فانكم ستتمتعون بها. وبرغم أن كل ثرواتكم لن تعيد الحياة الى مئات القتلى من رجالي فان ما ستفتدون به أنفسكم من مال لن يكون إلا تعويضاً بسيطاً عن فقدانهم.

وقال القائد الأسباني: أنتم أقوياء ومنتصرون وتستطيعون ان تقرروا ما تريدون.

أجاب خير الدين: لقد كنتم أقوياء وانتصرتم على المسلمين. وبعد انتصاركم اضطهدتم المسلمين في الاندلس, بكل لون من ألوان العذاب, وأخرجتموهم من دينهم بعد أن سلمت لكم غرناطة, ولم ترعوا عهودكم ومواثيقكم التي عاهدتم عليها ملكهم. أليس من حقنا الآن أن نفعل مثل ما فعلتم, وان نكرهكم على اعتناق الإسلام وإلا أنزلنا بكم العذاب? ولكننا مع ذلك لن نفعل وان كنا قادرين على ذلك.

هكذا كان الرجل الذي أصبح الآن الرجل الأول في الشمال الأفريقي. وهكذا تغير وجه البحر المتوسط على يد بارباروسا ورجاله المسلمين. وقامت الحصون وأبراج المراقبة على طول سواحل المتوسط وثغوره للتصدي والحماية من نشاطات وحملات خير الدين ورجاله. وتشهد مدن التلال على امتداد الساحل من اليونان إلى ايطاليا إلى صقلية إلى سردينيا والبليار على الرعب الذي عاشت فيه القوى الصليبية والأوروبية في هذه المدن من بارباروسا, كما تشهد أن جريمة الملكين الأسبانيين فردناند وايزابيلا ضد المسلمين في الأندلس, وفي نفس الوقت وصول الأخوين عروج وبارباروسا إلى غرب البحر المتوسط. كان لهما تأثيرهما الكبير على مجرى التاريخ.

في ذلك الوقت كانت القوتان الوحيدتان اللتان تسيطران على طرق التجارة في المتوسط, هما الأسبان وأساطيل بارباروسا. وكما يقول أحد معجبيه: (كانت اساطيله تتزايد شهراً بعد شهر حتى أصبح لديه 36 من السفن القوية. وكانت الهدايا التي ترسل اليه لا تكاد تحصى. وكانت قواته تتزايد باستمرار بوفود المقاتلين الذين أنقذهم خلال حملاته من الاستعباد الأسباني. فردوا له الجميل بأن أبلوا أحسن البلاء في حروبه ضد الأسطول الأسباني).

ألا ما أروع ما أنجزت يا خير الدين.

والواقع أن الجهود التي كان يبذلها خير الدين لدعم قوته وتوطيد حكمه كان لا بد لها أن تثمر. وقد استطاع أن يجعل من مدينة الجزائر التي اشترك معه لتقويتها المئات من بناة السفن ورجال البحر والعمال والفنيين والحرفيين في كل ميدان, مدينة من أقوى المدن الحصينة في العالم, حتى أطلق عليها اسم (المدينة التي لا تقهر).

وقد استطاع خير الدين أن يوطد نفوذه في الجزائر بعد أن تمكن عام 1529 من الاستيلاء على القلعة التي كانت لا تزال في يد الأسبان. الأمر الذي جعل الملك الأسباني يوجه ضده عام 1531 م, حملة بحرية كبيرة بقيادة اندريا دوريا القائد الجنوي. ولكن المقاومة القوية والدفاعات الصامدة التي واجهه بها خير الدين جعلت (دوريا) يفشل في تحقيق هدفه. ولا شك أن هذا الفشل كان مؤثراً, وكان لا بد من لقاء آخر فيما بعد بينه وبين غريمه خير الدين.

كانت انتصارات بارباروسا من العظمة حتى أن ابراهيم الوزير الأول للسلطان العثماني سليمان القانوني أغرى السلطان باستدعاء هذا القائد العملاق الى استانبول لاعادة تنظيم اسطول الدولة العثمانية. ولفرط اعجاب الوزير ابراهيم به كتب في رسالة إلى السلطان (لقد وضعنا أيدينا على رجل بحر أصيل. لا تتردد في أن تمنحه لقب باشا, وان تجعله عضواً في الديوان, وان تنصبه قائداً أكبر للبحرية العثمانية).

وكان تأثر السلطان سليمان لا يقل عن وزيره. وكما يقول القنصل الفرنسي في استانبول في رسالة الى حكومته: (ان القمة التي بلغها العثمانيون في البحر تؤرخ منذ أول انتصارات خير الدين بعد أن حطت قدماه على ميناء استانبول).

والحق أن خير الدين, من خلال معرفته بالبحر ومعاركه ومتطلبات سفنه ومؤثرات أسلحته وقيمة الرجال والمقاتلين على صفحته, كان قادراً تماماً على إقامة أقوى أسطول للامبراطورية. ودوى اسمه في كل مكان بارباروسا. سيد البحار.

في يوليو 1534 م أبحر الاسطول التركي الجديد من القرن الذهبي ليرسو في منطقة استراتيجية رئيسية في البحر المتوسط. وثار فزع أوروبا كلها, فقد كان الأسطول يضم 84 سفينة حربية بقيادة خير الدين بارباروسا. وبعد أن استدار الأسطول حول خليج مانابان وصل كالزلزال إلى مضيق مسينا واضعاً تحت رحمته طريق التجارة بين ايطاليا وصقلية.

وكانت تلك أول حملة من العديد من الحملات المتتالية التي أثارت فزع أوروبا. وتحرك بارباروسا صوب الساحل الايطالي الغربي عاصفاً بالموانئ آسراً كل السفن المبحرة على طول الساحل.

وفجأة حول بارباروسا سفنه ليتجه جنوباً إلى تونس حيث كان حاكمها مولاي حسن من الأسرة الحفصية قد أعلن الاستقلال عن الدولة العثمانية. وأقام علاقات مع الملك الاسباني شارل الخامس. ولم يكد مولاي حسن يشهد تقدم الاسطول التركي واقترابه من الميناء حتى أسرع الى جمع ثرواته وسكنوزه ورحل مع نسائه وأولاده هارباً إلى حلفائه عرب الداخل.

وباستيلاء خير الدين على تونس تحولت مثل الجزائر الى ولاية عثمانية. وبعد أن كان خير الدين قائداً أعلى للأسطول العثماني, فقد اصبح ايضاً والياً على تونس والجزائر معاً, وعرف في كل مكان في حوض المتوسط كأعظم رجال البحر. ولم يكن له من منافس على ذلك سوى الجنوى (اندريا دوريا).

في خريف 1538م وقعت المعركة الكبرى والأخيرة التي استمرت لسنوات في مواجهة حاسمة بين بارباروسا والقوى الأوروبية. تلك كانت معركة بيرفازا في مدخل خليج اكتيوم. نفس المكان الذي دارت فيه الدائرة على انطونيو وكليوباترا على يد أوكتافيوس قبل ذلك بقرون. وفي هذا المكان أيضاً حققت قوات الشرق انتصارها الكبير على الايطاليين وحلفائهم الأسبان.

فقد تجمعت سفن البندقية الثمانون ومعها 41 سفينة تحت قيادة أندريا دوريا بالاضافة الى خمسين سفينة اسبانية. والتحم هذا التجمع الضخم بسفن بارباروسا البالغة 150 سفينة. وكان الأخير عائداً من غزوة قام بها على جزر بحر ايجه. وعندما التقى بالمهاجمين صمم أن يلقن الأوروبيين هذه المرة درساً يتعلمون منه أن العثمانيين وحدهم سادة هذا البحر.

وكان واضحاً أنها معركة بين العمالقة. فبارباروسا ووراءه السواحل التركية وأراضي الممتلكات العثمانية يتستر بأحضان الخليج حيث موقع استراتيجي متميز. وعجز أعداؤه عن اختراق المضيق الضيق الذي يسيطر عليه الأتراك براً وبحراً. بينما بارباروسا على الجانب الآخر يستطيع الخروج في الوقت الذي يشاء معتمداً على مجريات الرياح محدداً اللحظة المناسبة للهجوم.

وفي ليلة 26 سبتمبر قرر دوريا أن ينسحب من موقعه الى خارج بريفينزا في محاولة لخداع بارباروسا. وكان متأكداً أن تحركات أسطوله في اتجاه اليونان التي أصبحت جزءاً من أراضي الدولة العثمانية سيجعل بارباروسا يتحرك لملاحقته وعندها يستطيع أن يخرجه من المضيق الذي يتحصن به. وقد كان. ولكن خير الدين لم يكن بالغافل عن هذه الخدعة. ومع هذا فبالرغم من معارضة ضباطه فقد قرر أن يخرج متابعاً عدوه ببطء ولكن بالسرعة التي يريدها.

وفجأة عند اكتيوم أسرع بارباروسا في جنح الليل ليلحق بأسطول أندريا ولتبدأ المعركة. وقد استغل بارباروسا خفة حركة سفنه لتحقيق هدفه وراح ينقض على أسطول أندريا. الذي كانت سفنه الثقيلة بطيئة الحركة. وكان الريح الشمالي الذي أبحر فيه أندريا دوريا قد انقلب ليعرض سفنه وهو يواجه عدوه لمخاطر جمة. وبدا واضحاً أن الموقف أصبح لا مهرب منه.


وفي 28 سبتمبر ـ برغم الجو الخريفي السيء ـ قرر بارباروسا بدء هجوم النصر. ولم يكن أمام أندريا دوريا الا أن ينسحب تاركاً سبع سفن أسيرة في أيدي الأتراك. واتخذ طريقه نحو كورفو تاركاً لبارباروسا أن يحول البحر المتوسط بحق. الى بحيرة عثمانية.

استطاع بارباروسا بعد ذلك وعلى مدى سنوات أخرى أن يحقق انتصارات جديدة على شارل الخامس ملك الاسبان الذي فقد خلال المعارك أغلب سفن أسطوله. وقد نجح خير الدين أيضاً أن يتعاقد مع فرانسيس الأول ملك فرنسا لاضعاف القوة الاسبانية فيما سماه الاسبان بـ(حلف الكفار) وأصبح الأسطول العثماني من بعد ذلك ملتقى أنظار كل المراقبين الأوروبيين.

وكانت الأعوام الأخيرة من حياة بارباروسا كلها سعادة. وكانت ثقة السلطان الكبيرة في قائده قد جعلته موضع التكريم في كل مكان. وأقيم باسمه مسجد من أجمل مساجد استانبول كما أقيم بالقرب منه ضريح يطل على البحر الذي عرفه طويلاً كأعظم بحار في عالمه.

ثم كان اليوم الذي لا بد منه.