عرض مشاركة مفردة
  #6  
قديم 03-06-2006, 12:40 AM
محمد العاني محمد العاني غير متصل
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,514
إفتراضي

ولقد قالت العرب القدامى: ان للشعر شيطاناً يلهم الشعراء بفصيح الكلام وبليغ المعاني فكان الشاعر الكبير أعشى قيس يصرّح باسم شيطانه (مسحل) فينشد:

دعوت خليلي مِسْحلاً ودعوا له

جُهنّام جدْعاً للهجين المذمّم

يقول الأعشى: لقد استعنت بشيطاني (مسحل) واستعانوا بشاعرهم (جهنام)، الا تباً لابن الأمَة الذميم.

ويصرح الشاعر رؤبة بشيطانه، وهو من بني الشيصبان إحدى قبائل الجن فيقول:

إذا ما ترعرع فينا الغلامُ

فليس يقال له من هوَهْ

إذا لم يَسُد قبل شدّ الإزار

فذلك فينا الذي لا هوه

ولي صاحبٌ من بني الشيصبان

فطورًا اقول وطوراً هوه

وتنسب هذه الأبيات للشاعر (حسان بن ثابت) رضي الله عنه، وكتب الأدب القديمة تزخر بالكثير من أحاديث شياطين الشعر وأفعالهم، فقد ظلت هذه الكتب تروي زعم الشعراء وهم يتحدثون عن حكاياتهم مع الجن.

فشيطان المخبّل السعدي، اسمه (عمرو) وشيطان الأعشى اسمه (مسحل) كما ذكرت آنفاً وللفرزدق جني، ولامرئ القيس أيضاً ولطرفة، إلى جميع الشعراء القدامى. ولعل أبيات أعشى سُليم تصور لنا قصة جنّ الشعراء، يقول:

وما كان جنيّ الفرزدق أسْوة

وما كان فيهم مثل فحل المخبّل

وما في الخوافي مثل (عمروٍ) وشيخه

ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مسحل

وأبو النجم الراجز يفتخر بشيطانه، أو يفخر بنفسه فيقول:

إني وكل شاعر من البشر

شيطانه انثى وشيطاني ذكر

واسْمع لهذا الشاعر الذي يرتجز ويقول:

إني وإن كنت صغيرَ السن

وكان بالعين نُبوٌّ عني

فإن شيطاني أمير الجن

فهذا الشاعر يضيف إلى شيطانه لقب الإمارة.

وقد تأثر الشاعر الكبير (أحمد شوقي) رحمه الله، كغيره من الشعراء القدامى فعرّج على وادي عبقر وصور عقائد العرب في رواية (مجنون ليلى)، فاستطاع (رحمه الله) ان يظفر بأفانين الشعر في مساكن الجن ووديانهم.

وأحمد شوقي لا يقل عن الشاعر (ذي الرمة) الذي استهوته شياطين الشعر فهو يقول:

وكم عرّست بعد السرى من معرّس

بها من كلام الجن أصواتُ سامر

ويقول:

بلاداً يبيت البوم يدعو بناتِه

بها ومن الأصداء والجن سامرُ

وقد يزعم بعض الشعراء انه آخى الشيطان وحالفه، واتخذه معيناً فيقول:

إني امرؤ تابعني شيطانيهْ

آخيته عمري وقد آخانيه

ولم ينس الشاعر العربي مساعدة الشياطين في الوصول إلى معشوقته من النساء. ونقرأ للشاعر عُبيد بن أوس الطائي في تعرضه لأخت عدي بن أوس.

هل جاء أوساً ليلتي ونعيمها

ومقام أوس في الخِباء المشْرجِ

ما زلت اطوي الجن اسمع حسهم

حتى دُفِعتُ إلى ربيبة هودج

فوضعت كفي عند مفرق خصرها

فتنفست بهراً ولمّا تنهج

قالت وعيش أبي وحرمة والدي

لأنبّهَنّ الحي إن لم تخرج

فخرجت خيفة أهلها فتبسمت

فعرفت أن يمينها لم تحرج

وأما عبيد بن أيوب العنبري التميمي، من شعراء العصر الأموي، فكان يزعم انه يرافق الغول والسعلاة ويبايت الذئاب والأفاعي.

ووادي الجن كثير المسالك، ولك ان ترفض وتكذّب ما نسب إلى الشعراء من قصص وحكايات فهذا من حقك وحقي.
واليك ما رقشه ونمّقه ليبلغ مراده الشاعر الطُّهْوي الذي ينطلق لسانه بكذبه فيسجل بشعره اكذوبة تضاف إلى تكاذيب العرب بأساطيرها وخرافاتها يقول الشاعر الطّهْوي:

لقيتُ الغول تهوي في ظلام

بسهْب كالعباية صحصحانِ

فقلت لها كلانا نِضوُ أرضٍ

أخو سفر فصدّي عن مكاني

شددت عقالها وحططت عنها

لأنظر غُدوة ماذا دهاني

إذا عينان في وجه قبيح

كوجه الهر مشقوق اللسان

وإن (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، ورسالة (التوابع والزوابع) لابن شهيد، وهما من الأمثلة الرائعة التي نقلت إلينا ألواناً من الأحاديث الشائقة التي ترفع عنك غوائل الجد وتشدك إلى ألوان من الفكاهة والترويح عن النفس مع ما في (رسالة الغفران) من فوائد علمية (عروضية ولغوية ونحوية).. وقد تطرقتُ إلى ما تطرقتُ إليه من أوهام العرب بقدرة الجن واختلاطهم بالناس، لأشير إلى ما دار بيني وبين الشاعر المبدع (عبدالله بن محمد بن صالح باشراحيل)، الذي يستطيع ان يكتب قصيدة في اليوم الواحد، يكتبها ويخرجها في إطار جميل ونسق بديع متلائم. وكنت أعرفه شاعراً مقلاً قبل ذلك.

وقد داعبته يوماً بقولي: ماذا جرى لك لعل بيتك الذي بنيته بعيداً عن أحياء مكة يجعلك تعرّج على وادي عبقر في كل ليلة والصحراء بجانبك فينطلق لسانك بما يجيش به صدرك، فتأتي لنا بالسحر الحلال في صور بيانية وأوزان هجرها الشعراء ولم نقرأ منها إلاّ نُتفاً في بعض كتب العروض فابتسم كعادته ثم أتبع الابتسامة بقهقهة ولم يرد عليّ.

ويعيب الشعراء الحداثيون المتأخرون الذين لا يعرفون معنى الحداثة في الشعر يعيبون اخوانهم الشعراء اتباع الخليل بن أحمد، إذا ما جاء شعرهم يعالج مناسبة من المناسبات التي تهم المجتمع، ونسوا ان الشعر لا يشرف ولا يرتفع ولا يسمو إلاّ بمعالجة الموضوعات الكبيرة والصغيرة ويستخلص الشاعر المبدع منها المعنى الإنساني الجميل. قال ذلك الجرجاني والجاحظ وغيرهما، فقالوا: «إن المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي». وقال ابن الأثير (صاحب المثل السائر): (كيف تتقيد المعاني المخترعة بقيد، أو يُفتح إليها طريق تسلكه، وهي تأتي من فيض إلهي بغير تعلّم).

ولو أردنا ان نحصر منذ ان بدأ الشعراء بشعرهم العمودي يتنفسون بالشعر، عما يدور في أذهانهم، وما يقع تحت حسهم لما استطعنا حصره.

وإني لأسأل - وحُق لي ان أسأل - بعض الشعراء المؤوف شعرهم، هل يستطيع أحد منهم ان يأتي لنا بقصيدة مثل قصيدة البحتري في الذئب، التي فاقت قصيدة الشاعر الفرنسي (دي فيني) وقد اعترضه ذئب، كما اعترض شاعرنا البحتري الذي صرع الذئب، وقال فيه البيت المشهور:

فخرَّ وقد أوردتُه منهلَ الردى

على ظمأ لو أنه عَذُب الوِردُ

ولا ننسى قصيدة الشاعر (ابن العلاف) في رثاء الهر، وقد قيل:

إنه كنى فيها بالهر عن عبدالله بن المعتز، حين قتله الخليفة المقتدر، وقيل: إنما كنى بالهر عن المحسن ابن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات، أيام محنته لأنه لم يجسر ان يذكره ويرثيه.. ويقول ابن خلكان في هذه القصيدة: «هي من أحسن الشعر وأبدعه» ومطلعها:

يا هرُّ فارقتنا ولم تَعُدِ

وكنتَ عندي بمنزلِ الولد

وهناك حوادث فياضة، استهوت الشعراء المبدعين، فأبدعوا في تصويرها. واقرءوا معي قصيدة الشاعر (لبيد) لابنتيه، ساعة احتضاره:

تمنى ابنتاي ان يعيش أبوهما

وهل انا إلاّ من ربيعة أو مضرْ

فقوما وقولا بالذي تعلمانه

ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعرْ

وقولا هو المرءُ الذي لا صديقه

أضاع ولا خان الصديقَ ولا غدرْ

إلى الحوْل ثم اسم السلام عليكما

ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذرْ

واقرءوا معي ما بدا في نفس الشاعر دعبل بن علي الخزاعي من ألم، وقد لاح الشيب في رأسه:

لا تعجبي يا سَلْمُ من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

وهذا النعمان بن المنذر، الملك العربي، وقد أتاه وفد من العرب، فيموت منهم رجل قبل ان ينال رفده، فلما أعطى كل وافد عطاءه، جعل عطاء ذلك الميت على قبره، حتى جاء أهله وأخذوه، فيقول النابغة الذبياني:

حَباءُ شقيقٍ فوق أحجار قبره

وما كان يُحبى قبله قبرُ وافد

وقد صدق النابغة في قوله: «وما كان يُحبى قبله قبر وافد»، ولم يقل: «وما كان يُحبى بعده». وقد مرت عصور على قول النابغة، فرأينا الأموات من العلماء والأدباء والشعراء في عصرنا الحاضر، يكرَّمون بعد موتهم.

وأقتضب كلامي، لئلا يذهب بي الاستطراد إلى الحديث، عما تأثر الشعراء به في مناحي حياتهم، وسأفرد لهذا الحديث مقالة أخرى، إن شاء الله.
الرد مع إقتباس