عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 12-04-2006, 07:05 AM
أحمد ياسين أحمد ياسين غير متصل
من كبار الكتّاب
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2005
الإقامة: فرنسا
المشاركات: 6,264
إفتراضي

ولهذا، فمن باب الحكمة أن يعطى لكل أمر منزلته ، فلا يتعداها إلى غيرها ، لأنه بتعديه عليها ، فإنما يقوض تلك البنائية المحكمة التي لم نتمكن بعد من اكتشافها كلها .وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، حين رأى البعض يدون كلامه ، فأمره بالكف عن ذلك ، خوفا من اختلاط الحديث بالقرآن ، وما هذا إلا لحكمته صلى الله عليه وسلم ، وفهمه للدين ، الذي لا يماثله فهم ، فكيف يأتي الآن آخرون ، لا يرتقون إلى مكانته ، ولا إلى أقل من ذلك ، يتكلمون باسمه ، ويتعصبون لما لم يتعصب له . وفي حياة الرسول الكثير من المواقف التي تنبه إلى هذه الميزة في الإسلام ، وأنه تكون اعتمادا على ظروف خاصة ، روعيت أحسن مراعاة ، وفهمها الصحابة أحسن فهم ، فكان منهم متمايزون ومختلفون على النص الواحد ، وعلى المشكلة الواحد .

وينبني على ما سبق ، أن الدخول في إعادة تشكيل هذه البنائية ، أو تجديدها ، أو تهديمها نهائيا ، إنما يتم على قواعد وأسس ، أو مقدمات منطقية ، كما فعلت سائر المذاهب الأربعة ، بأن احتكمت إلى أصول فقهية ، وقواعد مرعية ، جعلت اختلافها فيما بينها قائما ومنطقيا ، فليس الأمر متروكا لكل من هب ودب على هذا الدين ، وإذا أرادت السلفية أن تشكل مذهبا جديدا على ما تقول ، فينبغي لها أن توضح القواعد والأصول التي تنبني عليها سائر مقولاتها ، وأحسب أن اللغط والشك الذي تثيره هذه الحركة ، إنما هو ناشئ عن انعدام هذه الأصول التي احتكمت إليها كل المذاهب الفقهية ، واستطاعت من خلالها أن تنشئ مدارسها الفقهية المتميزة ، وهو ما جعل الحركة السلفية ، تهدم كل شيء مرة واحدة ، اعتقادا منها أن البناء بلا أساس ، والدار بلا أهل ، وأنه من الممكن تهديم مدرسة فقهية كاملة بضربة طائشة ، تحطم قرونا من البناء ، وأجيالا من الاجتهاد.

إن الاعتقاد بأن الكتيبات الصغيرة ، المجتزأة من مدارسة عظيمة ، وأفكار جليلة ، يمكن أن يمثل مدرسة فقهية ، أو منهجا جديدا ، لهو خطأ يمكن أن يؤدي إلى هاوية وقعرها .

ثالثا : أن الإسلام أينما وقع تنوعت استجابات الشعوب له ، فهو في الصين غيره في جزيرة العرب ، وفي المغرب غيره في المشرق ، وهذه خاصية للإسلام ينفرد بها على سائر الأديان والمذاهب ، فهو متفاعل مع الثقافة السابقة للشعوب ، يراعيها ويأخذ بها أحيانا كثيرة ، فنجد العمران في المشرق مختلفا عن المغرب ، والقبة هناك غيرها هنا ، وكلها قباب ، وقس على هذا في سائر المجالات ، فالأصل واحد ، محفوظ مصون ، والتفرعات كثيرة ، متفقة مع النمط الثقافي للمجتمع المستقبل له ، وهو ما يتماشى تماما مع الخلق وما هو مبثوث في الطبيعة ، إذ نجد فيه أنواعا كثيرة ، مردها كلها إلى صنف واحد ، رغم التمايز والاختلاف الذي تفرضه البيئة ، كما نجد ذلك في تنوع الحيوان رغم أنه كله طير أو ثدييات ، أو غيرها .




والدعوة السلفية ضد هذه الخاصية التي حمت الإسلام منذ قرون ، وهي من أهم مزايا انتشاره في الآفاق ، لأنها تحمل نظرة وحدانية ، لا مجال فيها للتمايز والتنوع ، وبهذا فهي خطيرة حتى على الدين ، لأنها تكبح انتشاره ، خاصة مع الظروف الجديدة ، التي تتميز بالعولمة والتكثف والاندماج ، وهذا لسبب جوهري ، وهو أن السلفية تأتي بالذات إلى هذه الخاصية الفريدة للإسلام ، والتي يمارس المجتمع من خلالها حريته ، ويبدع وينوع ، ويتفاعل مع الدين ، وتغلقها بإحكام ، ظنا منها أن الدين هو الوحدة الشكلية ، والمظهر المتحد ، وليس التفاعل والتنوع والتقدم .

إن هذه الخاصية للإسلام ، التي تتعلق بمجال الحرية التي يفتحها أمام المجتمعات والشعوب، لتعبر عن مكنوناتها وتفاعلها ، لا تؤمن بها السلفية بأي حال ، وتعتقد فيها خطرا على الدين ، فتغلقها بقوة ، مغلقة أمام الإسلام طريقه ، وملغية أهم خصائصه ، جهلا بائنا ، وظلما فادحا ، نسأل الله العافية