عرض مشاركة مفردة
  #24  
قديم 06-07-2005, 09:48 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

هذه العقيدة الإسلامية حتى عند القائمين بالليل تهجداً، والصائمين بالنهار تطوعاً، والمتحرجين عن الوقوع في محرّم، لا تعدو هذه العبادات، وتنصرف إلى الدنيا وحدها، ولم يعد التقيد بحكم الله كما جاء من عند الله هو الذي يسيطر عليها، ولم يعد لرفع كلمة الله وجعْلِها هي العليا في أعمالها أي وجود ولا في تفكيرها أي نصيب. فكيف يُطلب لإيجاد الدولة لهذه الأمّة وضع الدستور والقوانين قبل أن توضع الأفكار الأساسية التي ينبثق عنها الدستور والقوانين، والتي تعطي الدستور والقوانين صفة أحكام الشرع أي صفة المعالَجات التي جاء بها الوحي من عند الله؟

إنه لا بد من بعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين حتى تنطق قلوبهم قبل ألسنتهم أن أفكار الإسلام وأحكامه هي أكبر مبرر لوجودنا، وأن إخلاصنا لها يرتفع على كل إخلاص، وأن ولاءنا لها يرتفع على كل ولاء. فإذا نطقت قلوبهم بهذا ومثله، وصار الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما، فإنه حينئذ تكون الفكرة التي تجمع الأمّة كأمّة وتقوم عليها الدولة وتنبثق عنها القوانين قد أوجدت الحياة في الأمّة، فيسهل حينذاك وضع الدستور والقوانين. فالقضية أولاً وقبل كل شيء وضع البذرة في العقول والنفوس، ففقدانها هو أصل الداء وأساس البلاء، ووضعها هو العلاج والبلسم والترياق. على أن القضية هي إنهاض الأمّة وإقامة الدولة.

وإنهاض الأمّة إنّما يكون بالفكر وليس بالدستور والقوانين، وإقامة الدولة يعني نصب خليفة للمسلمين، ونصب الخليفة إنّما هو إقامة الحكم، والحكم سياسة بمعنى السياسة الرفيع أي فعل عقل وقلب. فالعقيدة العقلية التي تنبثق عنها أفكار الحياة تملأ العقل بالوعي والقلب بالمشاعر المتدفقة، وعنهما معهاً يصدر الفعل. وهذا الفعل هو الحكم، أو هو سياسة البشر. فهو لا يحتاج إلى دستور وقوانين أولاً حتى يكون، وإنّما يحتاج إلى عقل وقلب يُملآن بالفكر المستنير ثم بعد ذلك توجد الحاجة إلى الدساتير وإلى القوانين. فالفكر الذي يعطي وجهة النظر في الحياة أولاً وقبل كل شيء، أي العقيدة العقلية الحية أولاً وقبل كل شيء، فمتى وُجدت وُجد الحكم، ومتى وُجد الحكم وُجدت الدولة، وحينئذ يوجد الدستور وتوجد القوانين.

والقوانين والأحكام إنّما هي معالَجات للمشاكل اليومية التي تحدث مع البشر منبثقة عن وجهة النظر في الحياة، أي عن تلك العقيدة العقلية الحية التي أقامت السلطان وبُني عليها هذا السلطان. فالدستور والقوانين أداة للحكم وليست أساساً له، وهي مقياس للحكم على الأعمال التي يتقيد بها الحكام ويقيدون بها الرعية التي يحكمونها. أمّا الأفكار التي تنبثق عنها هذه القوانين أو الأحكام فهي التي توجِد الحكم وهي التي تدفع الأمّة لإيجاد الحاكم، وهي التي تجعل الحاكم يسوس الأمّة ويرعى شؤونها على وجه معين وبطريقة معينة، سياسة صادرة عن العقل والقلب معاً، ومدرَكة إدراكاً واقعياً، وتنبض بها المشاعر فتَجعل في الحاكم حرارة الحكم، وتَجعل سياسته سياسة حية تنبض بالحياة. فالأصل في إقامة الدولة عن طريق الأمّة ليس الدستور والقوانين وإنّما هو بعث الحياة في العقيدة العقلية التي ينبثق عنها الدستور والقوانين. أي الأصل في إنقاذ الأمّة من الفناء المحقق إنّما هو إنهاضها بأفكار الإسلام وإقامة الخلافة الإسلامية، أي إعادة الثقة بصحة أفكار الإسلام وصدقها وصلاحيتها، أو بعبارة أخرى بعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين.

أيها المسلمون

إن أمّتنا وُجدت خير أمّة أُخرجت للناس، فحرام أن يلحقها الفناء، وإجرام أن يدركها العفاء. إنها الأمّة التي نشرت الهدى في العالم، وحققت العدل بين البشر، وتحرت الحق في حكم الرعايا، وشملت الناس بالرحمة وأحاطتهم بالرعاية، ونشرت الطمأنينة، وأوجدت الاستقرار، ومتعت كل من استجاب لدعوتها بسعادة الحياة. إنها الأمّة التي عاشت من أجل إنقاذ الناس من الشرك والكفر، واستشهد الملايين منها في سبيل إعلاء كلمة الله، وكان عملها الأصلي في الحياة حمل الدعوة الاسلامية للعالم، ومَثَلها الأعلى نوال رضوان الله.

هذه الأمّة الكريمة الفِعال، العريقة المحتد، التي كانت تحمل همّ الإنسانية كلها لتخرجها من الظلمات إلى النور، والتي لا تزال الإنسانية مفتقرة إليها لتنقذها مرة أخرى من جشع المادة وقلق المادية إلى راحة التقوى وطمأنينة الإيمان. هذه الأمّة هي اليوم مشرفة على خطر الفناء، والكفر كله يحث الخطى للإجهاز عليها الإجهاز الأخير. هذه الأمّة آثار الكفار فيها التشكيك في أفكار دينها وأحكامه في ظرف بزغت فيه شمس صناعات الكفار واختراعاتهم بوهج الرقي الفكري وحرارة التقدم المادي، فأروها أفكار الكفر بعرض الاختراعات، وأحكام الضلال بإظهار الصناعات. فحصلت لها الفتنة ونجح الكفار في تشكيكها بأفكار الإسلام وأحكامه حتى جعلوها على مفترق الطرق. حتى إذا دمروا الدولة الإسلامية، وأزالوا الخلافة الإسلامية من الوجود، ساروا بهذه الأمّة وهي في حالة حيرة وذهول في طريق الفناء حتى لا يبقى لها أثر.

واليوم وبعد أربعين عاماً من السير وصلوا بها نهاية الطريق ووضعوها على حافة الهاوية، فصارت على وشك الفناء. فهل تتركونها تفنى كما فنيت الأمم من قبل، وحينئذ سيبعث الله من يحمل رسالته، ويبلّغ دعوته، ويؤيد دينه، فيستبدل غيركم بكم، قال تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)، وقال: (إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم)، أم تبذلون مُهَجَكم لإنقاذها حتى تستأنف مرة أخرى حمل رسالتها إلى العالم لإنقاذه مما هو فيه من كفر وضلال وفساد وشقاء، وتخرجه من الظلمات إلى النور.

أيها المسلمون

إن إنقاذ أمّتكم لا يتأتى لكم إلاّ إذا رجعتم إلى الله، وقوّيتم صلتكم به، واستمددتم العون منه، وتوكلتم عليه حق توكله، وجعلتم نوال رضوان الله المثل الأعلى في هذه الحياة. فإنّ إنقاذ أمّتكم إنّما هو من أجل نشر دين الله، وإعلاء كلمة الله، وإيصال الرحمة لخلق الله، وجلب السعادة لعباد الله، وهو يعني أن يُشدخ نافوخ الكفر، وأن يُحطم رأس الطاغوت، وأن يُسحق الإلحاد والضلال. وهذا كله لا يتم إلاّ بكفاح مرير بسلاح الفكر المستنير، وبجهاد صادق لإعلاء كلمة الله، وبيع الأنفس والأرواح في سبيل الله. ولذلك لا قوة لكم إلاّ بالله ولا سند لكم إلاّ الله، فالله وحده هو الناصر المعين. وهو نِعم المولى ونِعم النصير.

أيها المسلمون

لقد طال التصاقكم بالأرض فارفعوا أبصاركم إلى السماء، وازداد انهماككم في متاع الدنيا فالتفتوا إلى نعيم الآخرة. لقد آن الأوان لأن يتحرك حنينكم إلى الجنة، ولأن تتنسموا ريحها، وأن تصْبوا إلى نعيمها. فاجعلوا الشوق إليها المركب الذي يحملكم إلى معارك الكفاح وساحات الوغى، وأجيبوا دعوة الله لكم إذ قال: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدّت للمتقين)، ولبّوا طلب الرسول إليكم إذ قال: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض).

إن أصحاب بيعة العقبة الثانية قالوا: إنا نأخذ رسول الله على مصيبة الأموال وقتل الأشراف. وقالوا للنبي عليه السلام: فما لنا يا رسول الله إن نحن وفّينا بذلك؟ فرد عليهم رسول الله مطمئن النفس قائلاً: الجنة. نعم، الجنة أيها المسلمون ثمن بذل النفوس في سبيل الله لنشر الإسلام وإعلاء كلمة الله. قال تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون). نعم، الجنة أيها المسلمون الصفقة التي عقدوها مع الله، يقاتلون في سبيله فيَقتلون ويُقتلون. فهل آن الأوان لأن تشتاقوا لهذه الجنة، ولأن تَعقِدوا مع الله الصفقة التي لن تبور، فتشرون أنفسكم ابتغاء مرضاته، وتستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يُحييكم).

أيها المسلمون

إن مصيبتكم الفادحة أن العقيدة الإسلامية قد انطفأ نورها في قلوبكم، وذهب أثرها في أعمالكم، وفقدت حرارتها في تصرفاتكم، وصارت ميتة في نفوسكم. فأنيروها بأحكام القرآن وأحيوها بذكر الله، واجعلوها تعيدكم خلقاً آخر كالمسلمين الأولين من الصحابة والتابعين أو تابعي التابعين. أنيروها بالثقة بأفكار الإسلام وأحكامه وبالعمل لإعادة سلطان الإسلام ورفع راية القرآن. أنيروها بحمل الدعوة إلى الناس كافة لتخرجوهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، ومن جحيم القلق والشقاء إلى نعمة الطمأنينة ونعيم السعادة. وأحيوها بتقوى الله وطاعته، وبالخوف من عذابه والطمع في جنته، وبتقوية الصلة به، وبذكره في كل تصرف، وتذكّره عند كل عمل، وبالتقرب إليه لا بالصلاة والصوم والزكاة والدعاء فحسب، بل بقول الحق أينما كان، وكفاح الباطل أينما وُجد، وجهاد الكفار والمنافقين في كل وقت وفي كل حين.

أيها المسلمون

لقد انكشف لكم داؤكم بأنه زعزعة الثقة بأفكار الإسلام وأحكامه، ووَضُح لكم دواؤكم بأنه إقامة الخلافة الإسلامية بأفكار الإسلام وأحكامه. فصار نهج العمل واضحاً كالشمس في رابعة النهار، وصارت الغاية محددة تحديداً يلمسه كل إنسان. لذلك فإنا ندعوكم لبعث الحياة في العقيدة الإسلامية في نفوسكم، بدوام الصلة بالله، والدأب على دعوة الله والثقة بشرع الله، وجعل الأخوة الإسلامية وحدها الرابطة التي تربط جميع المسلمين. ونهيب بكم أن تعملوا بدأب متواصل ووعي كامل، وتضحية صادقة، لإعادة الخلافة الإسلامية ببث أفكار الإسلام والكفاح في سبيلها، لترفعوا راية الإسلام فوق جميع الرايات، ولتجعلوا كلمة الله هي العليا، ولتستأنفوا حمل رسالة الإسلام إلى العالم نوراً وهدى ورحمة للعالمين.

15 من جمادى الأولى 1382

13 تشرين الأول 1962