الموضوع: الكاتب وظله
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 24-07-2000, 08:07 AM
عبدربه عبدربه غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2000
المشاركات: 282
Post الكاتب وظله

من عادة الكتابة،أن تصطنع نوعا من المسافة بين الكاتب وشخوصه. وهذه المسافة،على ما ترومه من بناء عالم مستقل ومتعدد،فإنها هي المسافة نفسها،التي تفصل ببين المعيش وبين المكتوب. وحتى وإن كانت الكتابة سيرة ذاتية،فإنها لا تستطيع أن تنهض بدور مقاربة الحقيقة،أي إخراج صورة حرفية عن معيش الكاتب،في حقبة أو حقب،وفي أوضاع نفسية واجتماعية معينة. فمن مهام الكتابة أن تنشئ عالما قد تحضر في ثناياه صورة الكاتب،وهي مشحونة بأنواع التحويرات والتلوينات وبياضات الذاكرة،وما يمكن أن تمنحه اللغة من دفقات شاعرية وأسلوبية قد تخدم الشيء العرضي إذا كان له سحره وبهاؤه أكثر من سردها لوقائع.
وفي حال الرواية،فإن المسافة المشار إليها،تظل قائمة،محتفية بوعيها الخاص،لأنها السبيل إلى جعل ذات الكاتب مرصدا،وهي تتحرر من توجيه الأحداث والمصائر،أو من بث خطابات جامدة وأحادية النظر إلى العالم،زهي السبيل أيضا،إلى تحرير لغة الكتابة ومساحات تخييلها ومنحها الدينامية الضرورية لخلق الأشكال.
وإذا كانت ذات الكاتب مرصدا،بهذا المعنى،فإنها لا تسعى إلى جعل الحياة الخاصة موضوعا،وتفاصيل المعيش وثيقة،تتوخى رسم صورة شخصية لهذه الذات ومجتمعها،بل إن التحولات التي يعرفها المجتمع،والتي تصنعها شخصيات مقيمة أو عابرة،هي وجه من وجوه اشتغال الكتابة الروائية.
ثمة إذن،ظل هارب أبدا،يلاحقه الكاتب،هو أناه وتاريخه الشخصي،وذاكرته ومدركاته للعالم،وهروب ذلك الظل،يعني الوقوع في حبال خرائط وجغرافيات ومتاهات وحقب في أزمنة ولحظات تشكل أوضاع مجتمعية أو تحولها. وهذه الوضعية،سوف تسح للكاتب بأن يحيا إغراء ارتياد عوالم أرحب وأوسع،يمنح لذة التقصي والاكتشاف، ودهشة الخلق الأول عبر مراودة اللغة وبياضات الكتابة.
ظل الكاتب الهارب أبدا،لا يغري بملاحقته أمام إغراء ظلال أخرى ومرئيات ومشاهدات وتجارب،ربما تكون في غاية التنوع والتعدد. ومطاردة الكاتب لظله،المفتقد، سوف تقوده إلى نسيان هذه المطاردة،وقد صار يطارده الأخيلة والأفكار وتفاصيل محكيات ليست له بها أية علاقة،سوى علاقة الجذب والانجذاب،والسحر والإغراء،والكشف والاكتشاف،وتعلم فن العيش في فضاءات غير مسيجة بحدود اليومي والمبتذل،لأن تلك الفضاءات قد تنفتح على أنماط حياتية وأوضاع مجتمعية لها استقلاليتها عما يكون قد عرفه وعاشه الكاتب. هي فسحة لهت قلقها وتيهها ومروقها وتجلياتها وذهابها نحو اللامنتهى،لأن هذه الفسحة،قد تأخذ الكاتب نحو تخوم الكتابة.
التفاصيل البانية للأوضاع السردية،والشخصيات وهي تتشكل،ومستويات الوصف وهي تصف الوصف،والفضاءات وهي تتناسل،كلها مجال للعب تتحرك فيه اللغة بتوصيفاتها وإيحاءاتها،وذاكرة النص،تشهد على الحروب،وأساليب القتال،وأشكال تبادل العشق،والخيانة،وأنواع المقايضة،وتحولات المبادئ والقيم والأعراف،وطرائق الأعراس ودفن الموتى. الكاتب ليس إثنوغرافيا،وهو يعي معنى السقوط في مطب توصيفات الإثنوغرافيا،كما أنه ليس مؤرخا ولا جغرافيا ولا محللا اجتماعيا للظواهر،ولا خطيبا سياسيا مفوها أو عير مفوه،فهو عابر سبيل حيث لا سبيل،وهو يستشعر كل اللحظات من أجل بعث الدم في الحكاية،وهي حكاية بسيطة،لأنها حكاية ظل،يبحث عن الظل،وسط ظلال أخرى.
-للمقال بقية-
الكاتب الخفي - محمد عزالدين التازي
الرد مع إقتباس