عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 02-10-2003, 08:35 PM
البارجة البارجة غير متصل
دكتوراة -علوم اسلامية
 
تاريخ التّسجيل: Jun 2003
المشاركات: 228
إفتراضي

في الأساس، لا يكون الحوار إلا مع الآخر؛ وتحديدًا مع الآخر المختلف. إن هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها؛ وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك بأن التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكوِّنة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم إلى تفاهمها.

في ثقافتنا الإسلامية، كما يقول أبو الوليد الباجي، أن من اجتهد وأصاب الحق فقد أُجِرَ أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة للحق؛ ومن اجتهد وأخطأ فقد أُجِرَ أجرًا واحدًا لاجتهاده، ولم يُؤثَم على "الخطأ". نفهم من ذلك أن الاجتهاد، كأيِّ عمل فكري إنساني، مفتوح على الخطأ والصواب. فهو ليس مقدَّسًا، ولا مطلقًا، ولا ثابتًا، بل هو إنساني، محدود، ومتغير.

وفي ثقافتنا الإسلامية أيضًا أن "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". نفهم من ذلك أيضًا أنه ليس لأحد أن يدَّعي الحقيقة المطلقة. وليس له أن يخطِّئ الآخرين لمجرَّد اقتناعهم برأي مخالف. فالحقيقة نسبية؛ والبحث عن الحقيقة، حتى من وجهة نظر الآخر المختلف، طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو، في الوقت نفسه، أسمى أنواع الحوار.

وفي ثقافتنا الإسلامية، كذلك، أن الحوار يتطلب، أولاً وقبل كلِّ شيء، الاعتراف بوجود الآخر المختلف، واحترام حقِّه ليس في تبنِّي رأي أو موقف أو اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقِّه في الدفاع عن هذا الرأي أو الموقف أو الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.

ولأن الحوار يحتِّم وجودَ الآخر فلا بدَّ من تعريف "الآخر". وهو تعريف لا يمكن أن يتم في معزل عن "الأنا". إن فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحقَّقان من دون أن تتسع الأنا له. وبالتالي، كلما سما الإنسان وترفَّع عن أنانيته، أوْجَدَ في ذاته مكانًا أرحب للآخر. إن الحقيقة ليست في الأنا. إنها تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيَّتها. وهي لا تكتمل في إطلاقيَّتها إلا بالله. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثُّغُر والنواقص التي لا تخلو منها شخصية إنسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والإحساس بوجودي."

الآخر قد يكون فردًا وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمنًا، وقد يكون كتابيًّا، وقد يكون كافرًا. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضُه بعضًا. والآخر الكتابي في المجتمع الإسلامي هو في ذمة المسلم،[1] والرسول يقول: "من آذى ذميًّا فقد آذاني." أما الآخر الكافر فالعلاقة معه مبنيَّة على قاعدة "لكم دينكم ولي ديني". وفي كلِّ الحالات فإن العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد: "المسلم من سَلِمَ الناسُ من يده ولسانه."

يقرِّر الإسلامُ الاختلافَ كحقيقة إنسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الأساس. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" (سورة الحجرات، الآية 13). خلق الله الناس مختلفين، إثنيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا؛ ولكنهم في الأساس "أمة واحدة"، كما جاء في القرآن الكريم: "وما كان الناس إلا أمةً واحدة فاختلفوا" (سورة يونس، الآية 19)؛ أي أن اختلافاتهم، على تعددها، لا تلغي الوحدة الإنسانية.

تقوم هذه الوحدة على الاختلاف، وليس على التماثل أو التطابق؛ ذلك أن الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة إبداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: "ومن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" (سورة الروم، الآية 22). والقاعدة الإسلامية، كما حددها الرسول محمد، هي أن "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"؛ وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأمة الإنسانية الواحدة، يحتِّم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها.

إذا كان احترام الآخر كما هو، لونًا ولسانًا (إي إثنيًّا وثقافيًّا)، يشكِّل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الإسلام فإن احترامه كما هو، عقيدة وإيمانًا، هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الإكراه في الدين. فالقرآن الكريم يقول: "ولكلٍّ وجهةٌ هو مولِّيها" (سورة البقرة، الآية 148). وفي إشارة واضحة إلى تعدد التوجُّهات يقول أيضًا: "وما بعضهم بتابع قِبلةَ بعض" (سورة البقرة، الآية 145).

ذلك أنه، مع اختلاف الألسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج؛ وهو ما أكَّده القرآن الكريم بقوله: "لكلٍّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" (سورة المائدة، الآية 48). و"ثم إليَّ مرجعكم فأحكم بينكم [يوم القيامة] فيما كنتم فيه تختلفون" (سورة آل عمران، الآية 55). و"لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" (سورة هود، الآيتان 118-119).

أرسى القرآن الكريم، إذن، قواعد واضحة للاعتراف بالآخر وبوجهة نظره إجلاءً للحقيقة، بما في ذلك – بل في مقدمة ذلك – الحقيقة الإلهية.

حوار الله والشيطان

في حوار الله والشيطان، كما ورد في سورة الأعراف (الآيات من 11 إلى 25)، يقول القرآن الكريم: "ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك. قال أنا خير منه خلقتَني من نار وخلقتَه من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبَّر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال انظرني إلى يوم يُبعثون. قال إنك من المنظرين. قال فبما أغويتَني لأقعدَنَّ لهم صراطك المستقيم. ثم لأتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذءومًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأنَّ جهنم منكم أجمعين" (11-18). من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان، تبرز حقيقة الثواب والعقاب، الخير والشر، الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة أن تكتمل من دون هذا الحوار؛ وما كان لهذا الحوار أن يقوم من دون وجود الآخر.

وفي حوار الله مع الأنبياء، تبرز حقيقة الإعجاز الإلهي: "وإذا قال إبراهيم ربِّ أرني كيف تحيِ الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال بلىَ ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنَّ إليك ثم اجعل على كلِّ جبل منهن جزءًا ثم ادعهنَّ يأتينك سعيًا واعلم أن الله عزيز حكيم" (سورة البقرة، الآية 260).

وفي حوار الله مع عباده، تبرز حقيقة العدل الإلهي، حيث ورد في الآية الكريمة: "قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيرًا. قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" (سورة طه، الآيتان 125-126).

وفي حوار الأنبياء مع الناس، تبرز حقيقة التربية الإلهية، حيث ورد في الآية الأولى من سورة المجادلة: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير." كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية: "ألم ترَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربِّه إن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيِ ويميت. قال أنا أحيِ وأميت. قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآتِ بها من المغرب. فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" (سورة البقرة، الآية 258).

وفي حوار الناس مع الناس، تبرز حقيقة الجشع الإنساني: "فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفرًا" (سورة الكهف، الآية 34).

تبيِّن الآيات الكريمة السابقة أن الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع وفي الفكر وفي الاجتهاد وفي الرؤى. وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوُّع الذي يُعتبَر، في حدِّ ذاته، آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق ومظهرًا من مظاهر عظمته وتجلِّياته.

إن وحدة الجنس أو اللون أو اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم من دونها. لذلك لا بدَّ، من أجل إقامة علاقات مبنية على المحبة والاحترام، من الحوار على قاعدة هذه الاختلافات التي خلقها الله، وأرادها أن تكون، والتي يتكشف للعلم أنها موجودة حتى في الجينات الوراثية التي تشكِّل بعناصرها شخصية كلٍّ منا وتمايزاتها.

".
__________________
البارجة هي استاذة فلسفة علوم اسلامية ,
إلى الكتاب و الباحثين
1- نرجو من الكاتب الإسلامي أن يحاسب نفسه قبل أن يخط أي كلمة، و أن يتصور أمامه حالة المسلمين و ما هم عليه من تفرق أدى بهم إلى حضيض البؤس و الشقاء، و ما نتج عن تسمم الأفكار من آثار تساعد على انتشار اللادينية و الإلحاد.

2- و نرجو من الباحث المحقق- إن شاء الكتابة عن أية طائفة من الطوائف الإسلامية – أن يتحري الحقيقة في الكلام عن عقائدها – و ألا يعتمد إلا على المراجع المعتبرة عندها، و أن يتجنب الأخذ بالشائعات و تحميل وزرها لمن تبرأ منها، و ألا يأخذ معتقداتها من مخالفيها.

3- و نرجو من الذين يحبون أن يجادلوا عن آرائهم أو مذاهبهم أن يكون جدالهم بالتي هى أحسن، و ألا يجرحوا شعور غيرهم، حتى يمهدوا لهم سبيل الاطلاع على ما يكتبون، فإن ذلك أولى بهم، و أجدى عليهم، و أحفظ للمودة بينهم و بين إخوانهم.

4-من المعروف أن (سياسة الحكم و الحكام) كثيرا ما تدخلت قديما في الشئون الدينية، فأفسدت الدين و أثارت الخلافات لا لشىء إلا لصالح الحاكمين و تثبيتا لأقدامهم، و أنهم سخروا – مع الأسف – بعض الأقلام في هذه الأغراض، و قد ذهب الحكام و انقرضوا، بيد أن آثار الأقلام لا تزال باقية، تؤثر في العقول أثرها، و تعمل عملها، فعلينا أن نقدر ذلك، و أن نأخذ الأمر فيه بمنتهى الحذر و الحيطة.

و على الجملة نرجو ألا يأخذ أحد القلم، إلا و هو يحسب حساب العقول المستنيرة، و يقدم مصلحة الإسلام و المسلمين على كل اعتبار.

6- العمل على جمع كلمة أرباب المذاهب الإسلامية (الطوائف الإسلامية) الذين باعدت بينهم آراء لا تمس العقائد التي يجب الإيمان