عرض مشاركة مفردة
  #34  
قديم 26-09-2005, 07:43 PM
مُقبل مُقبل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Jul 2005
المشاركات: 461
إفتراضي

العـــــودة من الروحــــــــانية !


اقتربتْ عودته .. هذا اليوم الثامن لغيابه ..
اشتقت لأهلي كثيراً .. أريد محادثتهم ..
ولكن !! لقد منعني من ذلك ..
وأمرني بعدم محاولة مهاتفتهم .. ليكن !
لن أحادثهم .. لقد وعدته !! مع أنه لا يستحق الوفاء ..
ولكن لن أغضب الله من أجله ..
لن أفعل .. مع أن الشوق يحرقني إليهم ..
صليتُ المغرب .. خرجتُ من حجرتي وأغلقتُ الباب بهدوء ..
ما هذا السأم ؟! أشعر به عميقاً في حناياي !!

سمعتُ أصواتاً في الطابق السفلي .. ارتعشت ! مَنْ هذا أيضاً ؟!
هل هو أحد أقاربه ؟! أين أختبئ ؟!
نظرتُ بحذرٍ وخوفٍ من أعلى السلّم لأتعرف على القادم ! أوه لا !!!
إنها والدة زوجي !! إذاً فقد عاد !! ارتجفتْ !
تجمدتْ أطرافي ! وتشوّش ذهني ! هل أعود إلى حجرتي ؟!
لم أتمكن من ذلك فقد لمحتني والدته عند السلّم وكذا أخته !
تصنعتُ المرح .. هبطتُ مُسرعة !
عانقتُ والدته وحمدتُ الله على عودتها سالمة ..
تحركتْ نظراتي تبحث عنه!! أين هو ؟

قالت أمه وهي تجلس :
- زوجك قادم .. إنه في الخارج ! سيأتي بالأمتعة من السيارة !
نظرتُ إلى ساعتي وابتسمتُ في محاولة لإخفاء خوفي واضطرابي ..
وفجأة .. سمعتُ صوتاً خلفي استدرتُ بوجل ..
ورأيتُه يُغلق الباب بعنف !! شعرتُ وكأن صوت إغلاق الباب يَصُمّ أذنيّ ..
ويتردّد صداهُ في عقلي ..
ليعيدني إلى الحاضر ويسدل ستائره على الراحة والحرّية ..
في الأيام الماضية !!
انتبهتُ إلى صوت أخته تقول :
- ما بالكِ ؟ هل أنتِ معنا ؟!!
- آسفة .. كنتُ .. كنتُ أفكر في .. هل قُلتِ شيئاً ؟!

تداركتُ الأمر سريعاً وقلتُ له :
- حمداً لله على سلامتكم .. كيف كانت الرحلة ..؟!
رمى بنفسه على الكرسيّ قائلاً بفرحٍ غامر :
- موفقة جداً جداً جداً .. أشعر بروحانية عالية وإيمانٍ متزايد منذُ أن ذهبت إلى ذلك المكان !!
بلعتُ ريقي بصعوبة وقلت:
- الحمد لله .. ثم جلستُ معهم .. نتبادل أطراف الحديث ..
وأجبرتُ نفسي على سماع تلك الرحلة الإيمانية !!!!!
نظرتْ أخته إليه وكانت تقاسيم وجهها تعبر عن السرور قائلة :
- أخي .. أين وضعتم أماناتكم وحاجياتكم أثناء الرحلة ؟

أغمض عينيه بسرور بالغ .. وابتسم ابتسامةً لم أرها من قبل :
- لقد وضعناها على قبور الصالحين ..
لأنهم يقومون بحراستها فلا تُسرق ولا تؤخذ ..
وكذلك من أجل الحفاظ عليها وإنزال البركة بها .
تمالكتُ نفسي وشعرتُ بالذهول من قوله .. يا إلهي !!
هل يعتقدون أنّ الموتى يقومون بحراسة ما يُوضع على قبورهم؟
إنه كفرٌ بواحٌ .. ماذا يقول ذلك المتطاول ؟
أجابته أخته وما زالت تحت تأثير سحر كلماته :
- هنيئاً لكم .. هنيئاً لكم .. يا ليتني كنتُ معكم !
- آهٍ يا ابنتي .. إنها أيامٌ جميلةٌ لا تُنسى ..
لقد طفنا حول القبر ثلاثَ مراتٍ بالسيارة حتى لا يلحق بنا أذى أو ضرر خلال رحلتنا ..
والحمد لله كان لنا ما أردنا ..

فتحتُ عينيّ تعجباً ! توقفتُ عن التنفس .. فقاطعتُها بدون شعور:
- تطوفون حول القبر ؟ حول القبر يا خالتي ؟
وهل هناك كعبةٌ أخرى في تلك البلاد للطواف ؟
إذا كان الطواف حول قبر نبي من الأنبياء لا يجوز شرعاً فما بالكِ بقبر أحد العامة؟!!!
خيّم صمتٌ قاتل .. تنملتْ أطرافي وأنا أنتظر جواباً لما يدور بداخلي .. كانت نظرات الزوج المرعبة هي الإجابة الشافية ! أزاح بنظره عني .. وتظاهر باهتمامه بإكمال الحديث ..
تغيرتْ ملامحه وهو يقول :
- لقد شهدْنا وفاة أحد الصالحين هناك ..
كان منظراً مؤثراً لا يزال عالقاً بذهني حتى الآن ..

تكدّر وجه والدته وهي تضيف :
- نعم .. عندما حُملتْ جنازتُه للدفن وبعد أن قُرأت عليها قصيدة البُردة _ للبوصيري _
وتُلي عليها القرآن ورُدّدتْ الأناشيد ..
جاء الإمام ودعا على الحجر الذي يُجعل وسادةً للميت ..
قلتُ بتهذيبٍ مغلفٍ في محاولة مني للفهم :
- وهل .. وهل هذا جائز ؟
لم يُجبْ أحدٌ منهم سؤالي للمرة الثانية !!
فأيقنتُ بأنها إحدى البدع التي استحدثوها .. ماذا يفعل هؤلاء ؟
ثم تذكرتُ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )
ابتسم أخوه الأصغر في محاولةٍ لتهدئة وتخفيف التوتر وأضاف :
- أخي .. بِمَ يدعو الإمام على ذلك الحجر قبل وضع رأس الميت عليه ؟

ردّ عليه بكلمات تحمل الكثير من الحنوّ والعاطفة :
- يقرأ في دعائه أنك يا فلان تأتيك هذه الأسئلة ويذكرها ..
ويقول إذا سُئلتَ فأجبْ عنها بهذه الإجابات ولا تعجزْ فتكنْ من الهالكين ..
وإذا أجبتَ ضمنتُ لك الجنة ووُفّقتَ إلى الصواب ...
دققتُ سريعاً في وجهه .. إنه جاد !! ما هذا الهراء ؟
سألته بهدوء مصطنع :
- وهل ينفع الدعاء ذلك الميت ؟
أعني ... هل يجيب حقاً عن تلك الأسئلة كما أمره بذلك الإمام ؟!!!!
اعتدل في جلسته وكأنه قد قرأ أفكاري ثم أجاب بثقةٍ مفرطة :
- بالطبع تنفعه !! و إلا كيف يضمن له الإمام الدخول إلى الجنة إذاً ؟!
إنه عالَمٌ يصعب عليكِ فهمه .. لأن تفكيركِ جامد !!!

أمسكتُ بالكأسِ بأصبع مُرتعشةٍ .... وهتفتُ :
- لكن الغيبَ لا يعلمه غير الله سبحانه وتعالى .....
ولا يمكن لأحدٍ أن يضمن مصير أحدٍ كائناً من كان ...
حتى وإنْ كان عابداً أو زاهداً !! أليس كذلك ؟!!!
حدّقَ بي ثم بدأ بتوجيه الشتائم :
- إنكِ تحملين عقليةً متحجرةً محدودة ! فكيف لكِ أَنْ تفهمي تلك الأمور ؟!
من الأفضل لكِ أن تتوقفي عن الجدال ! وإلا فالعلاج الناجح سيبدأ الآن !!!
كانت الكأس قد شارفت على نهايتها ..
فاجترعتُ ما تبقى منه ثم وضعتُها بصمتٍ ...
بينما قال لوالدته وإخوته باختصار :
- لقد تبرعْتُ بالمال الذي جمعتُه منكم لصالح إقامة مسجدٍ على قبر أحد أولياء الله الصالحين هناك .. فأرجو أن يتقبّل الله منا جميعاً ...

اجتاحتني رعدةٌ مُفاجئةٌ فنطقتُ بعد أن ابتلعتُ ريقي بصعوبة :
- إقامة مسجد على ضريح ؟ أنتَ تبرعت بالمال من أجل ذلك ؟
كيف فعلت ؟ ولماذا ؟ ..
قال بنفاد صبرٍ وحيرة :
- وماذا في الأمر ؟ لماذا تعارضين كل شيء ؟!
ألا تعجبكِ أمور الخير أيضاً ؟!
كفّي عن ذلك !! هذا يكفي ! هل تسمعين ؟!!
تركزتْ أنظارهم عليّ ! كيف لهم أن يفهموا ؟ كيف أقنعهم ؟
التفتُّ إليهم بتركيز ... ثم قلت بوجل :
- صدقوني ... الصلاة لا تجوز في هذه المساجد ...
ولا يجوز بناؤها فكيف بالصلاة فيها ؟
إنها من عادات اليهود والنصارى ! افهموني أرجوكم ..

زمجرتْ أمه وقالت ساخطة :
- يبدو أننا قد ترفقنا بكِ كثيراً ! ولكن أنْ تسخري منّا فلا !
أنتِ ذاتُ عقليةٍ معقدة ! ولن أسمح لكِ بالمزيد ..
أردفتُ بسرعة :
- آسفة ... آسفة .. لم أقصد ذلك !
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ..
بل يجب نبش قبور مَنْ دُفن فيها ونقلها إلى مقبرة عامة !! ..... و.....
رفع حاجبيه استغراباً وقاطعني :
- ألا تعلمين أننا قبّلنا القبور والحجارة الموضوعة عليها تعظيماً وتكريماً للأموات ؟
وطلبنا المدد والعون منهم؟ وتوسلنا بهم وبجاههم لتتركي ما أنتِ فيه من ضلال ؟
ولكن يبدو أنكِ هالكةٌ لا محالة !!

عبثاً حاولتُ أنْ أثنيهُ عن آرائه !
ولكني وقفتُ أجمع الكؤوس وأقول ببساطة حتى لا أثير غضبهم :
- لا أعتقد أن طلب العون والمدد من غير الله يُجدي !
ولا أن تقبيل القبور والحجارة سوى خضوع وذل لغير الله تعالى !
ولا أن تعظيم الجمادات والأموات مشروعاً فيقبله عاقل لبيب !!!
استرقتُ النظر إليهم .. إنهم واجمون ..
وكأنّ على رؤوسهم الطير .. توجهتُ نحو باب الحجرة ففتحته ...
وخرجت وأنا أردّد في قرارة نفسي قوله تعالى :
( ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير .
إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير )

أعددتُ طعام العشاء ... مازالوا ثائرين على معارضتي أنْ كيف أتطاول على معتقداتهم الشريفة !!
ابتسمتُ للجميع وكأنّ شيئاً لم يكن ... ثم دعوتُهم لتناول العشاء ...
أمرني بالجلوس فجلست ..
فتح حقيبته وأخرج منها بعضاً من الحجارة والتراب وناولني إياها ..
رفعتُ نظري إليه ببطء وقلتُ بتعجب :
- وما هذا ؟
ركّز نظره عليّ ثم قال بتحدٍ وعناد :
- هذا نصيبك مما حملتُه معي من تلك القبور للتبركِ بها ..
فحافظي عليها واعتني بها ... و سأتابع ذلك بنفسي ...
بادرتُ بالاحتجاج ..
فرفع يده ليلزمني الصمت بعد أن نظر إليّ بتلك النظرات المتوهجة التي قاربت على إحراقي ..
فامتنعتُ عن الحديث وتنهّدت بألمٍ وأطرقتُ برأسي إلى الأرض قسراً...

قالت أخته ببهجة وهي تحتضن يدي والدتها :
- أمي .. ما رأيك في الذهاب مرة أخرى ؟!
ولكن لن تذهبوا من دوني .. آه .. كم أشتاق لذلك ..
بادلتها الأم بابتسامة أعمق وهي تضمها وتقول باهتمام :
- أوه بالطبع يا ابنتي سنذهب في أقرب فرصة ..
وسترافقنا زوجة أخيك بلا شك !! و إلا فلا !!!
شعرتُ بجسدي كله يرتجف فقلتُ منتبهة :
- ماذا ؟ نعم نعم .. سنرى إن شاء الله .. لكل حادث حديث ...
قالت أخته تخاطبه بفرح :
- إلى أين ستكون رحلتنا القادمة يا أخي ؟ هيا أخبرني .. إلى أين ..

هزّ كتفيه وقال بحرارة :
- المرة المقبلة سنترافق بنية السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ...
ثم حدّق ناحيتي .. لم أتفوّه بأي تعليق ...
وعلت جبيني تقطيبةٌ خفيفة ..
فواصل كلامه:
- للتبرك به وسؤاله وقضاء حاجاتنا وتفريج كرباتنا .. و ..
هداية ضالنا !!!!
فلمعتْ عيناه فجأة وكأنه يهدد ! تراجعتْ ..
خفضتُ عينيّ لأحملق في يديّ ..
حاولتُ جاهدةً أن أبتسم وأستعيد ثباتي ..

فقلتُ بصعوبة بالغة:
- أنت تقصد أن نذهب إلى هناك بنية الصلاة فيه فقط !
أليس كذلك ؟! لأن ..
قاطعني بعنف :
- لا يا عزيزتي .. بل بنية شد الرحال وزيارة القبور !!!
هل لديك اعتراض أيضا ؟!!!
بدأ عقلي وكأنه سنفجر فقلتٌُ بصعوبة وكأني أنتزع الكلمات من بئر سحيق :
- ولكن .. ولكن .. لا تجوز زيارة القبور بشد الرحال إليها .. بل هي ...
تبادل الجميع النظرات الحاقدة ..
واشتدت نبرة صوته وهو يقف ويزيح كرسيه إلى الوراء قائلا :
- أتمنى أن لا نخطئ في اختيار الكلمات الآن ...
وإلا فإنك تعلمين ما الذي سيحدث !! لا أريد نقاشا !
أجبته وعيناي تشعان ألما :
- حسنا سأفعل .. أهدأ أرجوك ..
أدركتُ بأنه لن يغير رأيه ولا نيته كذلك !!
فهو يعني ما قاله بأنه ليس هناك من موضوع ليُناقَش !!!



وللقصة تتمة بإذن الله
الرد مع إقتباس