عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 15-12-2001, 12:15 AM
محمد ب محمد ب غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2001
المشاركات: 1,169
إفتراضي جماليات الجرجاني

في جماليات عبد القاهر الجرجاني*
مقدمة:
يعد القاضي عبد القاهر الجرجاني (توفي سنة 471 هجرية) مؤسس علم المعاني (1) و أحد أهم مؤسسي علم البلاغة. وهاهو ذا في بداية كتابه "دلائل الإعجاز" يحدثنا عن طبيعة هذا العلم وفوائده فيقول: "لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل، وهو باب من العلم، إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة، ومعان شريفة، ورأيت له أثراً في الدين عظيماً، وفائدة جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد في ما يعود إلى التنزيل، وإصلاح أنواع من الخلل في ما يتعلق بالتأويل" (دلائل.. ص 34)
ونرى بوضوح في هذا النص أن عبد القاهر يريد أن ينقل البلاغة من مرحلة الأحكام الانطباعية غير المعللة وغير المصنفة إلى علم ذي نظرية متماسكة. وقد قام بهذه المهمة مسلحاً ببصيرة نافذة وفهم دقيق للغة والأساليب وحساسية جمالية عالية وشغف شديد بالبحث.
سمى الجرجاني كتابه الرئيسي "دلائل الإعجاز" وهو عنوان يوحي لنا بدافع ديني (شبه كلامي) لبحثه (2)، فالكتاب سيتولى تعليل إعجاز القرآن وسيتولى الرد على السؤال: "ما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف، حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر؟" وهو سؤال يمكن كما يقول الجرجاني أن يوجهه خصم ويغدو الرد عليه بالتالي واجباً دينياً "فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين و عقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه ويستقصي التأمل لما أودعناه" (دلائل.. الصفحة المرقمة بالحرف "ت" من المدخل).
وسيجد أن هذا الإعجاز لا يجوز أن يكون في الكلم المفردة "لأن تقدير كونه فيها يؤدي إلى المحال وهو أن تكون الألفاظ المفردة التي هي أوضاع اللغة قد حدث في حذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن" (دلائل.. ص 296) ولا يجوز أن يكون في معاني الكلم المفردة لأنه لم يتجدد في هذه المعاني شيء أيضاً لم يكن فيها قبل نزول القرآن، وليس الإعجاز في الزنة العروضية لكلماته ولا في مقاطع القرآن وفواصله وليست في سلامة الحروف من الثقل.. وليست في استعاراته لأنها إنما تأتي في آي معدودة.
أين الإعجاز إذاً؟ سيجيب الجرجاني جواباً يستند إلى نظريته الجمالية العامة
إنه في النظم.
1- تفسير الجمال
أ-اللفظ والمعاني:
تصدى الجرجاني إذاً لمهمة تعليل جمال الكلام، هذا الجمال الذي يسمى "فصاحة" أو "بلاغة" أو هو إن فاق قدرة البشر على الإتيان بمثله "إعجاز"، والسؤال- الوسواس الذي لا يمل الجرجاني من العودة إليه هو التالي:
هل "الحسن والمزية" في الألفاظ أم في المعاني؟ ويعيد من طرق مختلفة برهانه على أن الحسن في المعاني.
هذه الإشكالية تحتاج إلى بعض الجهد لفهمها لأن قارئ الجرجاني يحس بأن الجدال لا يدور حول مفاهيم واضحة تماماً،وسنحاول أولاً أن نحدد مفهوم كل من مصطلحات ثلاثة مهمة هي اللفظ، والمعنى، والغرض.
يقول الجرجاني:"لا يكون لإحدى العبارتين مزية على الأخرى حتى يكون لها في المعنى تأثير لا يكون لصاحبتها.
فإن قلت: فإذا أفادت هذه ما لا تفيد تلك فليستا عبارتين عن معنى واحد بل هما عبارتان عن معنيين اثنين،
قيل لك: إن قولنا"المعنى" في مثل هذا يراد به الغرض والذي أراد المتكلم أن يثبته أو ينفيه نحو أن تقصد تشبيه الرجل بالأسد فتقول: زيد كالأسد ثم تريد هذا المعنى بعينه فتقول: كأن زيداً الأسد. فتفيد تشبيهه أيضاً بالأسد إلا أنك تزيد في معنى تشبيهه به زيادة لم تكن في الأول وهي أن تجعله من فرط شجاعته وقوة قلبه وأنه لا يروعه شيء بحيث لا يتميز عن الأسد ولا يقصر عنه حتى يتوهم أنه أسد في صورة آدمي" (دلائل..ص199)
ويقول بعد قليل:"ولا يغرنك قول الناس: قد أتى بالمعنى عينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه فإنه تسامح منهم والمراد أنه أدى الغرض" (دلائل.. ص201)
الغرض إذن هو المعنى العام من الكلام،ما يراد إثباته أو نفيه، أما المعنى فهو الطريقة التي يتم بها هذا الإثبات أو النفي، ويبقى للفظ مدلول التركيب الصوتي المسموع فحسب وهذا التعريف الضمني للفظ نستنتجه من جملة مجادلات الجرجاني مع من يقولون إن الفصاحة والبلاغة هي صفة للفظ:"اللفظ يكون فصيحاً من أجل مزية تقع في معناه لا من أجل جرسه وصداه" (دلائل..ص326)
يقول أيضاً: "ليس الغرض بنظم الكلم أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل" (دلائل.. ص41)
والنصوص التي توضح هذا المعنى لمصطلح اللفظ غزيرة. غير أننا نلاحظ أن الجرجاني لم يكن يستعمل المصطلحات بصورة منهجية منسجمة دوماً ففي أحد الفقرات يستعمل المصطلحات الثلاثة السابقة بمعنى مختلف فيأتي بتأكيد يبدو عجيباً لأول وهلة ومتناقضاً مع أطروحته الرئيسية في الفصاحة والبلاغة فيقول: "واعلم أن الداء الدوي والذي أعيا أمره في هذا الباب غلط من قدم الشعر بمعناه وأقل الاحتفال باللفظ وجعل لا يعطيه من المزية إن هو أعطى إلا ما فضل عن المعنى: يقول ما في اللفظ لولا المعنى وهل الكلام إلا بمعناه، فأنت تراه لا يقدم شعراً حتى يكون قد أودع حكمة وأدباً واشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر" (دلائل..ص194)
ولا يزول التناقض إلا إذا اعتبرنا أنه يعني بالمعنى هنا "الغرض" ويعني باللفظ ما يطلق عليه في مواضع أخرى اسم "المعنى" الذي يشبهه في مواضع كثيرة بأنه والغرض كالنقش في الخاتم فقد تجد خاتماً بلا نقش وقد تجد خاتماً منقوشاً فالأول كقولنا مثلاً: "هو مضياف" والثاني كقولنا "كثير رماد القدر" فالغرض واحد وإنما اختلف المعنى.
وعند القاضي مصطلحان مترابطان هما "المعنى" و "معنى المعنى" فالكلام عنده ضربان: ضرب تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وضرب يوصلك فيه اللفظ إلى معنى ثم يعطيك هذا المعنى دلالة ثانية توصلك إلى الغرض ويمكن أن نمثل الضربين بما يلي:
1- لفظ - معنى (غرض)
2-لفظ - معنى - معنى المعنى (غرض)
ومن هنا يرى الجرجاني أنهم عندما يقولون إن الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها وإن المعاني كالجواري والألفاظ كالمعارض لها (و هي الأثواب التي تعرض فيها الجواري للبيع) فإنما يعنون بذلك المعنى الأول الذي توسط بين اللفظ ومعنى المعنى (بإمكاننا أن نسمي هذا المعنى الأول "المعنى الظاهر") مثال ذلك القولان "هو جبان الكلب" و "هو مهزول الفصيل" وهما كنايتان عن الجود فالغرض واحد توصل إليه بمعنيين أولين مختلفين فنسبوا الفرق بين العبارتين إلى الألفاظ وإنما هي من المعاني "فالمعاني الأولى المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض و الوشي والحلى" (دلائل.. ص 204)
ومما يسوقه برهاناً على أن الحسن إنما هو في المعاني لا في الألفاظ قوله "إنك قد تجد الكلمة تحسن في موضع ثم تجد الكلمة نفسها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر، كلفظ الأخدع في بيت الحماسة :
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتاً و أخدعا
وبيت البحتري :
و إني و إن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي
فإن لها في هذين المكانين ما لا يخفى من الحسن. ثم إنك تتأملها في بيت أبي تمام:
يا دهر قوم من أخدعيك فقد أججت هذا الأنام من خرقك
فتجد لها من الثقل على النفس ومن التنغيص والتكدير أضعاف ما وجدت هناك من الروح والخفة، والإيناس والبهجة"
و يضرب مثالاً آخر في كلمة "شيء":
"فانظر إلى قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ومن مالئ عينيه من شيء غيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
و إلى قول أبي حية:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
فإنك تعرف حسنها ومكانها من القبول. ثم انظر إليها في بيت المتنبي:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه لعوقه شيء عن الدوران
فإنك تراها تقل وتضؤل بحسب نبلها وحسنها فيما تقدم" (دلائل.. ص39)
فلو كان الحسن في اللفظ إذاً لحسنت الكلمة أو قبحت مهما يكن موضعها.
ب-جمالية البديع:
كان على الجرجاني لكي يعمم نظريته أن يبرهن أن ما يعد في العادة نموذجاً للجمال اللفظي، عنينا به ما سمي لاحقاً "المحسنات البديعية" لا يتناقض مع نظريته الأساسية في أن الجمال للمعنى لا للفظ.
رأى أن أنصار اللفظ قد يضربون بالجناس مثلاً على جمال لفظي بحت ففكر بأن الجناس لا يحسن دوماً فهو قبيح في بيت أبي تمام:
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت فيه الظنون أمذهب أم مذهب
وهو جميل في بيت البستي:
ناظراه فيما جنى ناظراه أو دعاني أمت بما أودعاني
وهذا القبح والحسن "لم يكن لأمر يرجع للفظ، ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول وقويت في الثاني، وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك بمذهب ومذهب على أن أسمعك حروفاً مكررة لا تجد لها فائدة –إن وجدت- إلا متكلفة متمحلة، ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها" ( دلائل.. ص402)
وأما الكناية فإنك إن نظرت إليها "وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى (و) أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون اللفظ" كأن تسمع قولهم "هو كثير رماد القدر" فتعلم أنه لا معنى للمدح بكثرة رماد القدر بحد ذاته فلا بد أنهم أرادوا معنى آخر مرتبطاً بهذا المعنى الأول ثم تستدل بالتفكير أن كثرة رماد القدر مرتبطة بكثرة الطبخ في القدور أي بكثرة القرى في الضيافة. وبمثل هذا تستدل على الغرض من قول ابن هرمة :
لا أمتع العوذ بالفصال ولا أبتاع إلا قريبة الأجل (دلائل.. ص331)
والاستعارة مثل الكناية "وذاك أن موضوعها على أنك تثبت بها معنى (و) لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ ولكنه يعرفه من معنى اللفظ" كان تقول "رأيت أسداً" وأنت تريد رجلاً شجاعاً، فمن الخطأ الظن أن الاستعارة كانت في اللفظ أولاً، فأنت لم تعر الرجل لفظاً كأنه اسم خال من الدلالة، بل أعرته معنى وكان لا بد للمعنى من لفظ يدل عليه "فليست الاستعارة نقل اسم عن شيء إلى شيء ولكنها إدعاء معنى الاسم للشيء" (دلائل.. ص333)
ذلك أن العقلاء- كما يقول القاضي- درجوا على أن يثبتوا اسم الشيء بشيء آخر إذا أثبتوا للثاني خاصة في الأول فإن وصفوا الرجل بالتناهي في الخير أو الحسن قالوا: "هو ملك" أو وصفوه بالطيب قالوا: "هو مسك" فإن استقصوا في ذلك نفوا عن المشبه اسم جنسه كما قال الله تعالى: "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم" ومن هذا قول المتنبي:
نحن ركب ملجن في زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال
ومن الاستعارة ما لا تستطيع فيه أن تزعم أن لفظاً قد نقل من شيء إلى شيء كتلك الموجودة في بيت لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
"لا خلاف في أن اليد استعارة، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أن لفظ اليد قد نقل عن شيء إلى شيء، وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبه شيئاً باليد فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ اليد إليه، وإنما المعنى على انه أراد أن يثبت للشمال في تصريفها الغداة على طبيعتها شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقلبه ويصرفه كيف يريد" (دلائل.. ص334)
وحكم التمثيل في حاجته إلى المعقول حكم ما تقدم ويضرب الجرجاني له مثلاً بكتاب "يزيد بن الوليد" إلى "مروان بن محمد" حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته: "أما بعد فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئت والسلام" فالمعنى أنه يقول له إنك في أمر البيعة تتردد بين رأيين: تبايع أو لا تبايع فإذا أتاك كتابي فاحسم أمرك وخذ بأحد الرأيين. لم نعرف ذلك من لفظ التقديم والتأخير أو من لفظ الرجل ولكن عرفناه بإدراكنا أنه لا يجوز أن يعني بكتابه المعنى الظاهر للألفاظ، بل لا بد له من معنى نستنتجه من سياق الحادثة وهو أنه يشبه تردده في البيعة بتردد الرجل بين أن يذهب في أمر أو لا يذهب فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى.
"وهكذا كل كلام كان ضرب مثل، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ ولكن تكون المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلة على الأغراض والمقاصد" (دلائل.. ص338)
ولا يرى الجرجاني في الكناية والاستعارة والتمثيل مجرد زينة وتوشية للمعاني بل لها وظيفتها في توكيد المعاني وتقوية التأثير في المتلقي. يقول: "أما الكناية فإن السبب في أن كان للإثبات بها مزية لا تكون للتصريح أن كل عاقل يعلم –إذا رجع إلى نفسه- أن إثبات الصفة بإثبات دليلها، وإيجابها بما هو شاهد في وجودها آكد وأبلغ في الدعوة من أن تجيء إليها فتثبتها هكذا ساذجاً غفلاًً، وذلك أنك لا تدعي شاهد الصفة ودليلها إلا والأمر ظاهر معروف وبحيث لا يشك فيه ولا يظن بالمخبر التجوز والغلط.
واما الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزية والفخامة أنك إذا قلت: رأيت أسداً كنت قد تلطفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول، وكالأمر الذي نسب له دليل يقطع بوجوده وذلك أنه إذا كان أسداً فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها"
"... وحكم التمثيل حكم الاستعارة سواء فإنك إذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحير والتردد، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر فتقول: قد جعلت تتردد في أمرك فأنت كمن يقول أخرج ولا أخرج فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى" (دلائل.. ص58)
يلاحظ القارئ هنا بالفعل كم كان عبد القاهر أعمق من البلاغيين الذين اعتدنا عليهم ممن جاء بعده فالمحسنات البديعية والتوشية البلاغية للكلام كانت عندهم بمثابة زينة جامدة منفصلة عن المعنى ولا دور لها في تأديته وفي التأثير النفسي في المخاطب أما عنده فالبلاغة جزء لا يتجزأ من وظيفة اللغة التواصلية.
ونجد في كتاب "أسرار البلاغة" تحليلاً نفسياً تفصيلياً للدور الوظيفي للتمثيل وفيه أن التمثيل يقوم على إخراج النفوس من الخفي إلى الجلي ومن المعقول إلى المحسوس "لأن العلم المستفاد من طرق الحواس أو المركوز فيها من جهة الطبع وعلى حد الضرورة يفضل المستفاد من جهة النظر والفكر في القوة والاستحكام، وبلوغ الثقة فيه غاية التمام، كما قالوا "ليس الخبر كالمعاينة ولا الظن كاليقين" (أسرار.. ص103) (3)
ويضرب الجرجاني مثلاً لوظيفة التمثيل هذه بيت المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
فقد برأ المتنبي نفسه من الكذب في دعواه الموجودة في الشطر الأول من البيت وأثبت أنها غير مستحيلة بمثال محسوس جعل ما يبدو ممتنعاً معقولاً ومعروفاً.
وقد لا يكون المعنى الممثل غريباً نادراً يحتاج إلى إثبات إمكانية وجوده فماذا تكون وظيفة التمثيل عندئذ؟
يقول الجرجاني إن التمثيل عندئذ إن لم يؤد وظيفة إثبات إمكانية الوجود فهو يؤدي وظيفة المقياس الذي يريك حد المراد إثباته ومبلغه في القوة والضعف والزيادة والنقصان كما تقول في التشبيه "كحنك الغراب" تريد إعطاء السامع فكرة عن شدة السواد لا عن السواد عموماً. فإن أراد الشاعر تمثيل مدى ما بلغه من خيبة الأمل وبوار السعي قال:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض على الماء خانته فروج الأصابع
فتدرك أنه بلغ من الخيبة أبعد الغايات "حتى لم يحظ لا بما قل ولا بما كثر" (أسرار.. ص105)
ويحذر القاضي معاصريه من طلب البديع على حساب المعنى قائلاً إنك قد تجد في كلام المتأخرين ميلاً إلى نسيان الوظيفة الأصلية للكلام وهي الإفهام والبيان فترى أحدهم "يخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، و أن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء" فكأنه بكثرة ما تكلفه كمن ثقل العروس بأصناف الحلي فنالها مكروه من ذلك! (أسرار.. ص6)
وهو يلخص رأيه في شروط الكتابة البليغة في هذه الفقرة الجميلة: "ولن تجد أيمن طائراً وأحسن أولاً وآخراً، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب إلى الاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لنفسها الألفاظ. فإنها إذا تركت وما تريد لم تكنس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها" (أسرار.. ص10)
ج- النظم:
يقول الجرجاني معرفاً النظم "ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض" ويكون هذا التعليق تابعاً لتوخي معاني النحو أي بالتالي للمعاني عموماً. ومن هنا ثمة فرق بين نظم الحروف ونظم الكلمات" وذلك أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط وليس نظمها بمقتضى عن معنى ولا الناظم لها بمقتف في ذلك رسماً من العقل اقتضى أن يتحرى في نظمه لها ما تحراه فلو أن واضع اللغة كان قد قال "ربض" مكان "ضرب" لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد. وأما نظم الكلام فليس الأمر فيه كذلك لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتبها على حسب ترتيب المعاني في النفس (...) مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها مع بعض حتى يكون لوضع كل حيث وضع علة تقتضي كونه هنا وحتى لو وضع في مكان غيره لم يصلح" (دلائل.. ص40)
ولا يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو بل لا تخطر الكلمة بالبال إلا مراداً منها ربطها بغيرها. ويضرب عبد القاهر لذلك مثلاً بيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
"وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفراداً عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون قد وقع "كان" في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء، وأن يكون فكر في "مثار النقع" من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني ... إلى آخره" (دلائل.. ص35)
وتكون العبارة فصيحة بليغة أو لا تكون بحسب ما تكون الكلمات فيها موضوعة في مواضعها التي يقتضيها المعنى أو لا تكون وكتاب "الدلائل" مليء بالأمثلة التي تبرهن على هذه القاعدة.
فمن الأمثلة البليغة قول إبراهيم بن العباس:
فلو إذ نبا دهر وأنكر صاحب وسلط أعداء وغاب نصير
تكون عن الأهواز داري بنجوة ولكن مقادير جرت وأمور
يقول الشيخ محللاً "فإنك ترى ما ترى من الرونق والطلاوة، ومن الحسن والحلاوة، ثم تتفقد السبب في ذلك فتجده إنما كان من أجل تقديمه الظرف الذي هو "إذ نبا" على عامله الذي هو "تكون" وأن لم يقل: فلو تكون عن الأهواز داري بنجوة إذ نبا دهر. ثم أن قال "تكون" ولم يقل "كان" ثم أن نكر الدهر ولم يقل "فلو إذ نبا الدهر" ثم أن ساق هذا التنكير في جميع ما أتى به من بعد. ثم أن قال "وأنكر صاحب" ولم يقل "وأنكرت صاحباً" لا نرى في البيتين الأولين شيئاً غير الذي عددته لك تجعله حسناً في النظم، وكله من معاني النحو كما ترى" (دلائل.. ص69)
ويلاحظ الشيخ بعد هذا التعليق أن ما تصرف به الشاعر من النظم إنما حسن في هذا لموضع لموافقته المعنى فحسن تنكير الدهر في قوله "فلو إذ نبا دهر" مثلاً لا يجعل التنكير حسناً في كل موضع فلكل معنى وجه من النظم يوافقه.
ومن الأمثلة فاسدة النظم سيئة التأليف قول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً أبو أمه حي أبوه يقاربه
وقول المتنبي:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها من أنها عمل السيوف عوامل
يرى الجرجاني في أمثال هذين البيتين أن "الفساد والخلل كانا من أن تعاطى الشاعر ما تعاطاه من هذا الشأن على غير الصواب، وصنع في تقديم أو تأخير أو حذف أو إضمار أو غير ذلك ما ليس له أن يصنعه، وما لا يسوغ ولا يصح على أصول هذا العلم، وإذا ثبت أن سبب فساد النظام واختلاله أن لا يعمل بقوانين هذا الشأن ثبت أن سبب صحته أن يعمل عليه" (دلائل.. ص67)
وعمل عبد القاهر في كتابه "دلائل الإعجاز" على استخراج هذه القوانين فتوصل إلى ملاحظات عبقرية رائدة تملأ ما بين دفتي الكتاب. درس مواضع التقديم والتأخير، والحذف، والفصل والوصل، ومواضع إن وإنما، إلى غير ذلك من الأبحاث التي تدل على فهم خارق في دقته للغة امتلكه الشيخ.
وليس الذكر التفصيلي لهذه الأبحاث من مهمتنا في هذه الدراسة ولكننا سنضرب مثالين فقط على التحليل الدقيق للنظم الذي قام به الجرجاني:
المثال الأول: يقول الجرجاني إنك قد تجد قولاً يحتمل في الظاهر وجهاً آخر غير الذي جاء عليه ثم ترى النفس تنبو عن الوجه الآخر وترى للذي جاء عليه "حسناً وقبولاً يعدمهما إذا أنت تركته إلى الثاني"
"ومثال ذلك قوله تعالى "وجعلوا لله شركاء الجن" ليس بخاف ان لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله. وانك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحظى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل، والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير. بيانه أن وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن. وإذا أخر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله (...) لم يفد ذلك وإذا كان كذلك أحتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصاً أن يكونوا شركاء" (دلائل.. ص222)
المثال الثاني: يكتشف الجرجاني خطأً خفياً في قول المتنبي:
عجباً له حفظ العنان بأنمل ما حفظها الأشياء من عاداتها
"وذلك انه كان ينبغي أن يقول: ما حفظ الأشياء من عاداتها، فيضيف المصدر إلى المفعول فلا يذكر الفاعل، ذلك لن المعنى على أنه ينفي الحفظ عن أنامله جملة، و أنه يزعم أنه لا يكون منها أصلاً، وإضافته الحفظ إلى ضمير "ها" في قوله: "ما حفظها الأشياء" يقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظاً. ونظير هذا أنك تقول: ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عاداتي وكذلك تقول ليس ذم الناس من شأني ولا تقول ليس ذمي الناس من شأني لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوده منك" (دلائل.. ص424) (وبنفس الطريقة يجب أن لا نقول ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عاداتي)
2- في نظرية الجرجاني الجمالية:
أ-نظرة عامة:
لم يكن الجرجاني من الباحثين الذين يكتفون بالدراسة الوصفية، بل هو من رجال العلم الذين تميزوا بما يمكن أن ندعوه "النظرية الواحدية" وهؤلاء يتميزون باكتشاف جذر أساسي واحد للظاهرة التي هم بصدد دراستها والتركيز على هذا الجذر والعمل الدؤوب المتحمس والمتعصب أحياناً لنفي وجود جذور أخرى أو إثبات أن هذه الجذور الأخرى ليست جذوراً بل نتائج لما يرونه "الجذر الحقيقي" وهو ما يضعهم بالضرورة في موضع الصراع الفكري مع الآخرين من ذوي الاتجاهات الأخرى وليس هذا حال أهل الاتجاهات الوصفية أو التوفيقية ومن أمثلة هذه الفصيلة من الباحثين الغربيين فرويد وماركس وربما عددنا من رجال تراثنا معهم ابن خلدون.
قارئ الجرجاني يحس بأنه غير محايد ولا بارد الأعصاب في تقرير أطروحاته في طبيعة البلاغة فهو ما ينفك يعود إلى ذم "اللفظيين" (والتسمية من عندنا) ويعلن انزعاجه من أطروحاتهم ومسلماتهم ويكتشف وجوهاً جديدة من بلادتهم وترديدهم لمقولات شائعة دون تفكير. هو إذاً بطبيعته النفسية والعقلية رجل مذهب ورجل كفاح مذهبي، وربما كان من دلائل الجمود العقلي في تاريخنا أننا لم نشهد له تلاميذ يحملون روح نظرياته وإن شهدنا عدداً كبيراً ممن لخصها تلخيصاً جامداً يعزلها عن سياقها الوظيفي التواصلي كما أشرنا سابقاً. لم نشهد له "مدرسة" أدبية و نقدية تذكرنا بالمدارس الأدبية والنقدية الأوروبية (والشيء نفسه وربما بصورة أوضح حصل مع ابن خلدون)
وعندما يعيد الجرجاني جمال الأبيات وإعجاز الآيات إلى نظمها نحس بأنه يقترب من "النظرية النفعية" في الجمال لأنه بنظريته التفصيلية في النظم (التي رأينا قبل قليل بعض أمثلته التطبيقية عليها) يقول ضمنياً أنه لما كان النظم هو توخي المعاني في وضع الكلمات في مواضعها، وكانت البلاغة تتناسب مع سلامة هذا النظم ودقته، فإن الجمال (بأسمائه المرادفة: البلاغة والفصاحة والإعجاز) ما هو إلا تحقيق النفع المرجو من الكلام بصورة كاملة وهذا النفع هو الإيصال أو البيان (وهو في هذا منسجم مع الاشتقاق اللغوي لكلمتي "البلاغة" و "الفصاحة") وهو بهذا خصم عنيد للاتجاه الذي عاصره واشتد مزيداً من الاشتداد بعده الذي تميز بقلة الاهتمام بإيصال غرض ما وقصر الاهتمام على إظهار البراعة في التلاعب في الألفاظ وفي استعمال البديع وضروب التعقيد التي أسماها الدكتور شوقي ضيف "مذهب التصنع"(4)
على أننا لا يفوتنا أن نلاحظ مع ذلك أن الجرجاني كان له التأثير النقيض الذي هو ربما لم يحسب حسابه وبصورة خاصة في جزء علم البيان من أبحاثه وليس علم المعاني فهناك يمكن أن تجرد "المحسنات البديعية" من سياقها التواصلي بصورة أسهل وقد قدم لنا الجرجاني نفسه أول مثال على موقف إعجاب لم يكن في نظري على قدر كاف من التبصر بالألاعيب اللفظية لأدب العصور المتأخرة حين مدح بيت البستي وغفل عن البيت الذي قبله أو تغافل وهو بيت سخيف والبيتان معاً:
قلت للقلب ما دهاك أجبني قال لي بائع الفراني فراني!
ناظراه فيما جنى ناظراه أودعاني أمت بما أودعاني
ونحس أن الجرجاني مع نظريته التي قلنا إنها "نفعية الطابع" كان يحس أن في البلاغة ما هو أكثر من الوظيفة النفعية وان فيها تأثيراً جمالياً خاصاً وإلا فليس للتورية في "ناظراه فيما جنى ناظراه" وظيفة نفعية واضحة.
ب-هل المعاني كل شيء ولا دور للفظ حقاً؟ اعتراض الأستاذ سيد قطب
تكلم الأستاذ سيد قطب في كتاب "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"(5) عن نظرية الجرجاني النقدية وقد تكلم عن نظرية النظم التي تخص "علم المعاني" في الفصل المخصص للمنهج الفني في النقد ثم عاد فتكلم عن علم البيان في الفصل المخصص للمنهج النفسي.
والجرجاني في كتابيه ("الدلائل" و "الأسرار") هو خصم لمن يدعي أن جمالية الأدب في اللفظ ونصير متحمس للفكرة القائلة إن هذه الجمالية تكمن في المعاني وقد تكلمنا عن هذه الفكرة في نظرية النظم وهو في بحثه عن سر جمالية المحسنات البديعية من جناس وتشبيه وتمثيل واستعارة في كتاب "الأسرار" يعيد هذه الجمالية إلى قوانين نفسية. وبالجملة فهو لم يزل عند رأيه الذي "لا يجعل للفظ مزية من حيث جرسه وصداه".
وسيد قطب رغم احترامه الكبير لآراء الجرجاني يعترض على إغفال الجرجاني المطلق للقيمة الصوتية للفظ علاوة على إغفاله لما يسميه "الظلال الخيالية" يقول "ومع أننا نختلف مع عبد القاهر في كثير مما تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة اللفظ الصوتية مفرداً ومجتمعاً مع غيره، وهو ما عبرنا عنه بالإيقاع الموسيقي، كما يغفل الظلال الخيالية في أحيان كثيرة، ولها عندنا قيمة كبيرة في العمل الفني.. مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يقرر نظرية هامة كهذه- عليها الطابع العلمي- دون ان يخل بنفاذ حسه الفني في كثير من مواضع الكتاب" (النقد الأدبي.. ص128)
و الأستاذ قطب في كتابه هذا ينقل أمثلة كان قد ذكرها في كتاب آخر هو "التصوير الفني في القرآن" ونذكر نحن هنا منها الأمثلة التالية:
"تسمع الأذن كلمة "اثاقلتم" في قوله (تعالى) "يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض؟" فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة "طناً" على الأقل من الأثقال ولو أنك قلت: "تثاقلتم" لخف الجرس، وضاع الأثر المنشود، وتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقل برسمها.
وتقرأ: "وإن منكم لمن ليبطئن" فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلها، وفي جرس "ليبطئن" خاصة، وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها.
وتتلو حكاية قول هود: "قال أرأيتم إن كنت على بينة من ربي و أتاني رحمة من عنده فعميت عليكم. أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟" فتحس أن كلمة "أنلزمكموها" تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض، كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدون إليه وهم منه نافرون!"
وهذه في رأيي نظرة دقيقة متذوقة للأستاذ قطب الذي كان أديباً قبل أن يكون ناقداً ولكن ما قال على صحته يظل ظواهر معزولة والأصل يبقى فيما قرره لغويونا القدامى وأعاد تقريره علم اللسانيات الحديث-"سوسور" مثلاً- من أن العلاقة بين اللفظ والمعنى هي عموماً علاقة اعتباطية.
وأمثلة الأستاذ قطب التي تثير من جديد إعجابي بعبقريته النقدية وأسفي على أنه لم يتابع في هذا الميدان (لأسباب عديدة يعرفها القارئ ) قد تكون بالفعل حالات استثنائية ناتجة عن الحقيقة العظيمة التي نؤمن بها نحن المسلمين وهي أن هذا الكلام ليس بكلام بشر! عل أننا لا يفوتنا هنا أن نذكر أن العلاقة بين الأصوات والمعاني مسألة قديمة من مسائل فقه اللغة وقد بحثها علماؤنا كالعبقري الأول الخليل والعبقري الثاني ابن جني. قال ابن جني في كتاب "الخصائص": "اعلم أن هذا موضع شريف لطيف، وقد نبه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صرّ، و توهموا في صوت الباز تقطيعاً فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة، نحو النقزان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حذيا، ومنهاج ما مثلا، وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضاعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والجرجرة والقرقرة، ووجدت أيضاً الفعلى (بفتح كل من الفاء والعين. م) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو البشكى والجمزى والولقى"
العلاقة بين الأصوات والمعاني إذاً ليست تماماً وفي جميع الحالات اعتباطية وخصوصاً في لغتنا العربية غير أن هذه العلاقة على الأغلب هي اعتباطية بالفعل ويمكن البرهنة على ذلك بطريقة بسيطة وهي أن نرى كيف تولد دلالات جديدة للكلمات مع بقاء اللفظ على حاله وقد تكون هذه الدلالات بعيدة عن بعضها جداً ولتغير الدلالة قوانين خاصة مستقلة عن اللفظ. ويبقى للبلاغة أن تطلب من الأديب أن يراعي بعض الجوانب الصوتية في تأليف الكلمات بحيث يسهل نطقها إن كان الموضع يتطلب السهولة وقد يكون الموضع يتطلب من القارئ أن يتوقف و"يتعثر" في النطق ومن هذا اختلاف الباحثين في قول امرئ القيس:
ضفائره مستشزرات إلى العلا....
فكثير من أهل البلاغة لام امرئ القيس على كلمة "مستشزرات" ولكننا قد نرى قيمة تعبيرية لهذا العسر في النطق يساعد سامع البيت على تصور شكل الضفائر!(6)
ج- الجرجاني والشكلانية:
هل هناك نقاط التقاء بين الجرجاني والمدرسة الشكلانية الروسية التي هي رائدة المدرسة البنيوية الحديثة؟
كلا المدرستين تستند إلى معطيات علم اللغة في دراسة جمالية النصوص الأدبية ولا تهتم بالمضمون الذي يحتويه النص (أو باصطلاح الجرجاني: الغرض) غير أن المدرستين تختلفان في أن الشكلانية ترى أن الأدب بحسب تعبير "جاكوبسون" يتميز بأنه "عنف منظم يرتكب في حق اللغة العادية.. فالأدب يحول ويكثف اللغة العادية، كما أنه ينحرف بصفة منتظمة عن الكلام اليومي (...) أو بالتعبير التقني للسانيين: هناك عدم تكافؤ بين الدالات والمدلولات" (6)
ورغم أن الجرجاني يشير إلى جمالية عدم التكافؤ هذا كما رأينا في أبحاثه في الاستعارة والكناية والمجاز غير أنه لا يعده العامل المميز الوحيد للجمالية وأكثر من ذلك: إنه يميل غالباً إلى عده مجرد وسيلة لإيصال الغرض مثله مثل النظم وقد لا يوجد في النص ومع ذلك يكون النص متميزاً جمالياً كما في القرآن الكريم الذي فيه آيات لا انحراف دلالياً فيها وهي مع ذلك معجزة بلاغية كآيتين مثل بهما الجرجاني "ولكم في القصاص حياة" "وجعلوا لله شركاء الجن" وفي المقابل قد توجد نصوص فيها انحراف دلالي ولا تكون إلا هراء لا بلاغة فيه!
على أن "الانحراف الدلالي" قد يكون حقاً مصدر جمال ولكن على شرط وجود علاقة محددة بالمعنى درس مثيلاً لها عبد القاهر بعبقريته الفذة.
وتبقى النظريات الأدبية خاضعة للمبدأ الذي يوضحه مثل العميان الذين وصفوا الفيل فوصف كل منهم جانباً واحداً فليس الأمر أمر "خطأ" ولكنه أمر نظر جزئي إلى الظاهرة الأدبية.
ولا شك أن قيمة عبد القاهر يزيد من إظهارها ما انحدر إليه الأدب من تعلق بالشكليات اللفظية بعد عهده والضد يظهر حسنه الضد وهذا الذي دفع محمد عبده وتلميذه رشيد رضا إلى الحماس له وإعادة بعث كتابيه فقد كانا يواجهان هذا النوع من الأدب في أيامه الأخيرة قبل نشوء الأدب الجديد.

هوامش:
*اعتمدنا في جميع استشهاداتنا من كتابي"دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة" على:
"دلائل الإعجاز في علم المعاني تأليف الإمام عبد القاهر الجرجاني- وقف على تصحيحه وعلق حواشيه السيد محمد رشيد رضا"-دار المعرفة –بيروت – 1981م.
"أسرار البلاغة في علم البيان تأليف الإمام عبد القاهر الجرجاني صححها..السيد محمد رشيد رضا" - دار المعرفة – بيروت 1982م
(1) عن حياة الجرجاني وإثبات كونه مؤسساً لعلم المعاني راجع مقدمة السيد رشيد رضا لكتاب "أسرار البلاغة".
(2) كان الجرجاني متكلماً على طريقة الأشاعرة، ويرجح أنه أخذ مصطلح "النظم" منهم وبمفهومهم له.
(3) يضرب الجرجاني لهذه الحقيقة النفسية مثلين طريفين من حياتي النبيين إبراهيم وموسى عليهما السلام، فالأول طلب من ربه أن يريه بعينيه كيف يحي الموتى فسأله "أولم تؤمن" قال "بلى ولكن ليطمئن قلبي" والثاني سمع من أخيه هارون ما فعل بنو إسرائيل من عبادة العجل فلم يكسر الألواح فلما رآهم بنفسه يعبدونه كسرها.
(4) تحدث الدكتور شوقي ضيف عن هذا المذهب في كتابيه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي" و "الفن ومذاهبه في النثر العربي" الصادرين عن "دار المعارف بمصر".
(5) سيد قطب- "النقد الأدبي أصوله ومناهجه"- دار الشروق- القاهرة- بيروت- 1990 الطبعة السادسة.
(6) انظر نقاشاً شيقاً للغاية لهذه المسألة في كتاب فقيد العلم والأدب العلامة صبحي الصالح رحمه الله "دراسات في فقه اللغة" – دار العلم للملايين-بيروت- الطبعة الرابعة1970- الفصل الثالث "مناسبة حروف العربية لمعانيها"
(7) تيري أجلتن- "مدخل إلى نظرية الأدب"– نشرت ترجمة عربية للمقال في دورية "الفكر العربي المعاصر" عدد مزدوج 44-45 ربيع 1987.
الرد مع إقتباس