عرض مشاركة مفردة
  #5  
قديم 06-07-2005, 09:21 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

[size=5]وكذلك حين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن الحق هو رابطة بين شخصين سواء وُجد شيء أم لم يوجد، لكن الواقع أن العلاقة لا توجد بين شخصين وجوداً يتكون منه الحق إلاّ إذا وُجد شيء تتعلق به العلاقة. فالشيء هو موضوع العلاقة، بل هو أساس العلاقة. ثم إن هذه العلاقة التي سموها رابطة لا تخوِّل أحد الشخصين مطالبة الآخر حتى يقال تخوِّل الدائن مطالبة المدين، بل تخوِّل كل واحد من الشخصين مطالبة الآخر. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق الشخصي من مثل البيع والإجارة والصلح، كلها تدل بصراحة على أن الشيء هو أساس العلاقة ولولاه لَما وُجدت العلاقة ولَما وُجد الحق، وتدل كذلك على أن كلاً من الشخصين تخوّله العلاقة مطالبة الآخر، إلاّ أن نوع المطالبة يختلف، فالبائع يطالب بالثمن والمشتري يطالب بالسلعة، وهكذا.

على أن تقسيم الحق إلى شخصي وعيني لا معنى له في الواقع ونفس الأمر، لأن القضية تتعلق بعلاقة الشخص سواء أكانت مع شخص آخر ومعه شيء كالبيع، أو كانت مع شي ومعه شخص كالهبة، أو مع شيء فقط كالوقف الخيري. ولذلك لا يوجد فرق بين القسم الأول المتعلق بما سموه بالحق الشخصي، ولا بين القسم الثاني المتعلق بما سموه بالحق العيني، إذ لا فرق بين الرهن وحقوق الامتياز وما شاكلها مما ذُكر في الحق العيني وبين الحوالة والبيع والشركة والإجارة والوكالة وما شاكلها مما ذُكر في الحق الشخصي، لأن الموضوع علاقة من الإنسان تتعلق إما بالشخص وموضوعها المال، وإما بالمال مضافاً إلى الشخص، وإما بالمال فقط، وهذه الثلاث كلها شيء واحد هو تنظيم علاقة الإنسان. ولهذا كان تقسيم الحق من حيث هو وتقسيمه هذا التقسيم بالذات فاسداً.

وأيضاً فإن التشريع الغربي يبرز فيه ما يسمى بالقانون المدني أي التشريع المتعلق بجميع المعاملات سواء التي تنظم علاقة الفرد بأسرته أو التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال. والهجوم على التشريع الإسلامي إنّما كان بالقانون المدني. فهذا القانون المدني قد خلص الغرب إليه من تقسيم الحق إلى شخصي وعيني. فقد جعلوا الحق الشخصي هو الالتزام، وعلى هذا الأساس وُضعت نظرية الالتزام، وكانت هي الأصل الفقهي لجميع القوانين الغربية سواء التقنينات اللاتينية أو الجرمانية.

فإنها كلها تقوم على نظرية الالتزام. وقد عُرّف الالتزام عدة تعاريف وكلها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل. فقد عُرّف الالتزام "بأنه اتفاق يلتزم بمقضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، وعُرفّ "بأنه حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل". وإذا قُرنت هذه التعاريف بتعريفهم للحق الشخصي "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوَّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، يبرز أن نظرية الالتزام هي عينها الحق الشخصي. فكانت الخطوة الثالثة من أسس التشريع، إذ عرّفوا الحق، ثم قسّموا الحق إلى قسمين عيني وشخصي، ثم أقاموا على الحق الشخصي نظرية الالتزام وجعلوها أساس القوانين المدنية كلها في الغرب.

وتعتبر هذه النظرية أهم النظريات في التقنينات الغربية جميعها. والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات الغربية جميعها يُستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني عندهم، بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم. فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحيتها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات الغربية، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها. وبذلك تبرز الغرابة والدهشة من مهاجمة الغرب بمعالجات هذه القوانين الفاسدة أحكام الإسلام، وتحديه بهذا التشريع الباطل تشريع الإسلام الحق، ثم يُهزم أمامه المسلمون.

ولنرجع إلى نظرية الالتزام أو الحق الشخصي، فنقول إن الالتزام عندهم أو الحق الشخصي يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وهذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام هي في نظرهم سلطة تُعطى للدائن على جسم المدين لا على ماله، وهذا هو الذي يميز عندهم بين الحق العيني والحق الشخصي، فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تُعطى للشخص على شخص آخر. وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها الإعدام وحق الاسترقاق وحق التصرف. وبناء على قيام هذه النظرية على حرية الفرد فإنها كذلك تقضي بترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غُبن في ذلك، فهو حر في الالتزام، فإذا التزم كان عليه جبراً الوفاء بما التزم به. وقد جعلوا للالتزام مصادر وحاولوا أكثر من مرة ترتيب مصادر الالتزام.

والناظر في نظرية الالتزام أو الحق الشخصي يمكنه أن يتبين فسادها رأساً من بطلان تعريف الحق وحده لأنها انبثقت عنه، ويتبين له فسادها من تقسيم الحق إلى عيني وشخصي لأنها نتيجة لهذا التقسيم وجزء منه. ولكن لأجل أن يضع المرء اصبعه على المعاملات الفاسدة التي نشأت عن هذه النظرية حتى يحس ويلمس فساد التشريع الغربي، نعرض لبعض ما في هذه النظرية من خطأ وفساد.

فتعريف النظرية بأنها "اتفاق يلزم بمقتضاه.. الخ"، يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وعلى ذلك فإنه لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق كالهبة مثلاً مع أنها عندهم من الحق الشخصي، وتخرج عنه المعاملات التي تصدر عندهم من شخص واحد ولا تتوقف على غيره كالمعاملات التي يسمونها بالإرادة المنفردة، مثل شركات المساهمة والجمعيات التعاونية وكالوصية والوعد بجائزة، مع أنهم جعلوها داخلة تحت نظرية الالتزام وتشكل مصدراً من مصادره. فضلاً عن أن هناك معاملات أخرى تحصل عند البشر ولا يشملها هذا التعريف مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات وما شاكل ذلك. وهذا يدل على فساد التعريف. وبما أنه وصفٌ لواقع، فيكون الواقع الذي وصفه فاسداً أو يكون التعريف نفسه فاسداً، فلا بد من التدقيق في هذا الواقع لإعادة تعريفه. وأيضاً تعريف النظرية بأنها "حالة قانونية بمقتضاها.. الخ"، يعني جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرها القانون وليس حالة قانونية فحسب. فمثلاً أمْر الدولة الناس أن لا يقطعوا أحراشاً معينة أو الاحراش بشكل عام هو حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن يمتنع عن عمل. وعلى هذا تكون هذه الحالة حسب التعريف من القانون المدني مع أنها ليست منه، أي تكون من الالتزام مع أنه لا صلة لها بالالتزام. وبهذا يتبين فساد هذا التعريف أيضاً.

أمّا قولهم إن الإلزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، فهو خطأ، سواء قيل عنها رابطة شخصية أو رابطة مادية، لأنها ليست رابطة وإنّما هي علاقة للإنسان وُجدت من جراء محاولته إشباع حاجاته العضوية وغرائزه، ومن جراء عيشه مع غيره من بني الإنسان. ولذلك قد تكون علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون علاقة من شخص واحد مثل إنشاء الطلاق والوصية والوقف. فليس المقصود هو وجود شخصين، ولا وجود شخص وشيء، وإنّما المقصود هو معالجة مشكلة للإنسان علاجاً ينظم غرائزه وحاجاته العضوية وينظم علاقاته.

على أن الحقيقة التي يدل عليها واقع حياة الإنسان بوصفه إنساناً هي أن الالتزام من حيث هو غير موجود، وأن القضية هي علاقة بين إنسان وإنسان موضوعها المصلحة التي يقررها القانون، وهذه العلاقة ينظمها القانون. وأن الوقائع أو المسائل أو المشاكل التي تحدث من الإنسان هي المصدر لهذه العلاقة، والقانون هو الذي يقرر اعتبار هذه العلاقة، ولا يوجد شيء غير ذلك. ولا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين، ولا توجد هذه الرابطة مطلقاً ولا هي رابطة بين شخص ومال، أو سلطة لشخص على مال. وإنّما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ. وهذه العلاقة توجدها المصلحة أي جلب منفعة أو دفع مضرة، وينظمها القانون. فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال. ويتلخص كذلك أنه توجد إلى جانب العلاقة بين شخصين علاقة ناشئة عن المال فقط مثل الوقف الخيري، وإعطاء الزكاة والصدقات، وإقامة المعابد، وإنشاء السبيل العام من مراعٍ ومياه للشرب والسقي وما شابه ذلك.

وعلى ذلك فإن الالتزام بالمفهوم الذي ذكره التشريع الغربي وبُني عليه جميع القوانين الغربية غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي. والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية أيضاً غير موجود، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة بين شخصين، وإنّما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرها القانون. وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجارة، أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل أي الجُعل، كما ينطبق على المعاملات التي تصدر من شخص واحد كالوصية والطلاق والوقف وما شابه ذلك. وعليه فنظرية الالتزام نظرية مغلوطة. وعلى ذلك تكون جميع الاجتهادات الفقهية التي بنيت على أساسها أو انبثقت عنها مغلوطة مهما تفرعت وتنوعت لأنها جميعها فروع لأساس فاسد.

ومما يجعل المرء يلمس ويحس مادياً فساد نظرية الالتزام هذه هو استعراض موقفها حين عرضت لها المشاكل المتجددة والمتعددة في المجتمع مع سير الزمن، فإنها لم تَثبُت لهذه المشاكل ولم يستطع أصحابها الصمود عليها، مما اضطرهم إلى التأويل والتفسير والبُعد عنها حتى استطاعوا إيجاد حلول للمشاكل المتجددة. فهذه النظرية كانت منذ عهد الرومان، وجميع التقنينات الغربية نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يُذكر. لكن لمّا بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها، وبرز لهم عدم صلاحيتها، فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات وليس لكونها باطلة. وأخذوا يغيّرونها زاعمين أنها تتطور. أي أخذوا يبتعدون عنها ويغيرون أصولها بحجة التطوير أي الانتقال من حال إلى حال، وبحجة المرونة أي قابلية التفسير.

والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوروبا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام. فعقد العمل قد أُدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن من قبل، كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب. ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد ولا يبيح مثل هذه الحقوق. ونظرية العقد ذاتها التي تقول إنها تَوافُق إرادتين على إنشاء التزام، كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.