عرض مشاركة مفردة
  #9  
قديم 06-07-2005, 09:27 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

أمّا بالنسبة للكون والإنسان والحياة، فإن الكون مجموعة أجرام وكل جرم منها يسير بنظام مخصوص لا يملك أن يغيره، وهذا النظام إما أن يكون جزءاً منه أو خاصة من خواصه أو شيئاً آخر غيره، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة مطلقاً. أمّا كونه جزءاً منه فباطل، لأن سير الكواكب يكون في مدار معين لا يتعداه، والمدار كالطريق هو غير السائر، والنظام الذي يسير به ليس مجرد سيره فقط، بل تقييده بالسير في هذا المدار. ولذلك لا يمكن أن يكون هذا النظام جزءاً منه. وأيضاً فإن السير نفسه ليس جزءاً من ماهية الكوكب، بل هو عمل له. ولذلك لا يمكن أن يكون جزءاً منه. وأمّا كونه خاصية من خواصه فباطل، لأن النظام ليس هو سير الكوكب فحسب، بل سيره في مدار معين. فالموضوع ليس السير وحده، بل السير في وضع معين. فهو ليس كالرؤية في العين من خواصها بل هو كون الرؤية في العين لا تكون إلاّ بوضع مخصوص. ومثل كون تحوّل الماء من ماء إلى بخار لا يتأتى إلاّ بنسبة معينة. فالموضوع ليس سير الكوكب، أو رؤية العين، أو تحوّل الماء، بل الموضوع هو سير الكوكب في مدار مخصوص، ورؤية العين في أحوال مخصوصة، وتحوّل الماء بنسبة معينة. هذا الوضع المفروض على الكوكب، وعلى العين، وعلى الماء، هو النظام. وهو وإن كان السير من خواصه، فإن كون السير لا يكون إلاّ بوضع معين، ليس من خواصه، وإلاّ لكان من خواصه أن ينظم سير نفسه. وحينئذ يستطيع أن ينظم نظاماً آخر ما دام من خواصه التنظيم، والواقع أنه لا يستطيع ذلك، ولهذا لا يمكن أن يكون من خواصه. وما دام ليس جزءاً منه وليس من خواصه، فهو غيره قطعاً. فيكون قد احتاج إلى غيره، أي احتاج الكون إلى النظام.

ولا يقال إن كونه يسير في مدار معين هو خاصية ناتجة عن اجتماع الكواكب مع بعضها فنتج عن اجتماعها خاصية كون السير في مدار معين، كالهيدروجين وحده له خاصية، والأوكسجين وحده له خاصية، فإذا اجتمعا معاً صارت لهما خاصية أخرى، وكذلك الكواكب. لا يقال ذلك لأن الهيدروجين والأوكسجين حين اجتمعا كوّنا جسماً آخر، فصارت له خاصية أخرى، فهي خاصية جسم لا خاصية وجودهما في الكون، بخلاف الكواكب فإن الكوكبين أو الكواكب لم تكن لكل منهما خاصية وهي منفردة ثم صارت له خاصية بالاجتماع، بل ظلت هذه الخاصية خاصية لكل كوكب بمفرده خاصية له وحده ولم يجتمعا ولم يكوّنا جسماً واحداً قط، ولذلك تكون الخاصية للكوكب ولا تكون لاجتماع كوكبين أو لاجتماع الكواكب، لأن الاجتماع الذي يشكل جسماً آخر لم يحصل.

وكذلك لا يقال إن هذه هي خاصية الجاذبية. فإن الجاذبية هي الدافع للحركة، كالحياة في الإنسان فإن المشي في الإنسان لأنه حي، ولكن المشي ليس من خواص الحياة، وسير الكواكب لأن فيه جاذبية، ولكن السير ليس من خواص الجاذبية، فمن باب أوْلى أن لا يكون السير في مدار معين من خواص الجاذبية، ففي السير خاصية الكوكب والسير في مدار معين هو النظام، وأمّا الحياة فإن احتياجها إلى الماء وإلى الهواء ملموس محسوس. وأمّا الإنسان فإن احتياجه إلى الحياة ثم إلى الطعام وغير ذلك، ملموس محسوس، وعليه فإن الكون والإنسان والحياة محتاجة.

ولا يقال إن ما في الكون من أشياء احتاجت لبعضها هي أشكال لشيء واحد، فهي كله مادة تشكلت بأشكال مختلفة، ولكنها في الحقيقة شيء واحد هو المادة. فالمادة احتاجت لنفسها ولم تحتج إلى غيرها، فهي غير محتاجة. لا يقال ذلك لأن المادة حتى تتشكل بأشكال مختلفة لا تستطيع أن تتشكل إلاّ بنسبة معينة مفروضة عليها فرضاً من غيرها. فالماء حتى يتحول إلى بخار يحتاج إلى نسبة معينة حتى يتحول، والبيضة حتى تتحول إلى كتكوت تحتاج إلى نسبة معينة من الحرارة، وهكذا. فتشكُّل المادة لا يمكن إلاّ بنسبة معينة أو وضع معين. وهذه النسبة أو هذا الوضع ليس من المادة، وإلاّ لاستطاعت أن توجِدها كما تشاء، ولَما فُرضت عليها، فكونها مفروضة عليها فرضاً معناه أنها جاءت من غيرها، فهي محتاجة إلى هذه النسبة أو هذا الوضع حتى يتم التشكل، ومحتاجة إلى من يوجِد لها هذه النسبة حتى يتم التشكل. وعليه فهي محتاجة إلى غيرها أي ثبت لها وصف الاحتياج.

ومدلول كلمة محتاج يعني أنه مخلوق، لأن مجرد حاجته تعني أنه عاجز عن إيجاد شيء ما من العدم، أي عاجز عن إيجاد ما احتاج إليه، فهو ليس خالقاً. وما دام ليس خالقاً فهو مخلوق، لأن الوجود كله لا يخرج عن خالق ومخلوق، ولا ثالث لهما. وأيضاً فإن المحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، لأن مدلول كلمة أزلي تعني أن لا يستند إلى شيء، لأنه إذا كان في تصرفه وتحوله يحتاج إلى غيره، يكون احتياجه لغيره في وجوده من باب أوْلى. ولأنه لو احتاج في وجوده إلى غيره لكان ذلك الغير موجوداً قبله، فلا يكون أزلياً. فمدلول الأزلي أنه لا يستند إلى شيء، ولا يحتاج إلى شيء. وما دام المحتاج ليس أزلياً، فهو مخلوق قطعاً. وعلى هذا فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة أمر قطعي، وهذا يعني أن كونها مخلوقة لخالق أمر قطعي أيضاً، فكون الأشياء المدرَكة المحسوسة مخلوقة لخالق يدل على وجود الخالق قطعاً.

وهذا الخالق لا بد أن يكون غير مخلوق، ولا بد أن يكون أزلياً. أمّا كونه غير مخلوق فلأنه لو كان مخلوقاً لَما كان خالقاً، لأنه لا يوجد إلاّ خالق ومخلوق، وهما شيئان متباينان، فأحدهما غير الآخر قطعاً. ولذلك فإن من صفات الخاق كونه غير مخلوق، فكل ما ليس بمخلوق هو الخالق. ولا يقال إنه خالق لشيء ومخلوق لشيء آخر، لأنه ليس البحث عن شيء معين كالإنسان أو الآلة، بل البحث عن المخلوق من حيث هو مخلوق لا عن مخلوق معين، وعن الخالق من حيث وصفه بالإيجاد من عدم، فلا يكون الشيء خالقاً ومخلوقاً في وقت واحد، فالخالق هو ما سوى المخلوقات. وأمّا كونه أزلياً أي لا أول له فلأنه إذا كان له أول كان مخلوقاً، إذ قد بُدئ وجوده من حد معين، فكونه خالقاً يقضي بأن يكون أزلياً. إذ الأزلي تستند إليه الأشياء ولا يستند إلى شيء. وهذا الأزلي الخالق هو مدلول كلمة الله أي هو الله تعالى، وأيضاً فإن الأشياء التي يدركها العقل هي الإنسان والحياة والكون. وهذه الأشياء محدودة، فهي مخلوقة. فالإنسان محدود، لأنه ينمو في كل شيء إلى حد ما لا يتجاوزه، فهو محدود. ولأن الإنسان جنس متمثل تمثلاً كلياً في كل فرد من أفراده. فكل فرد إنسان، ولا يوجد أي فرق بين فرد وفرد في الخواص الإنسانية، فما يصدُق على فرد من الإنسان يصدُق على الآخر، كأي جنس من الأجناس كالذهب في قطعه الصافية وكالأسد في الحيوان وكحبة التفاح في جنسها من الفواكه، وهكذا. فالجنس، أي جنس، ينطبق عليه كله ما ينطبق على كل فرد من أفراده. وأبسط ما يشاهَد أن الفرد يموت وأن الإنسان يموت. فجنس الإنسان قطعاً يموت، وهذا يعني أن هذا الجنس محدود قطعاً. ومجرد التسليم بأن الإنسان يموت معناه التسليم بأن الإنسان محدود.

ولا يقال إن الإنسان الفرد هو الذي يموت، ولكن جنس الإنسان لا يموت، بدليل أنه في كل عصر يموت الملايين ومع ذلك فإن في العصر الذي بعده بدل أن يفنى الإنسان مع الزمن نراه بالمشاهدة يكثر، فهو إذن لا يموت كجنس بل يموت كفرد. لا يقال ذلك، لأن جنس الإنسان ليس مركباً من مجموع أفراد حتى يقال إن الفرد يموت والمجموع لا يموت، فيوصَل من ذلك إلى أن الجنس لا يموت. بل الإنسان هو ماهية معينة تتمثل في أفراد تمثلاً كلياً دون فرق بين فرد وفرد، وذلك كالماء وكالبترول وكالقمح وككل جنس. ولذلك فإن الحكم عليه لا يجوز أن ينصب على مجموعه، لأن جنسه ليس مركباً من مجموعه، وإنّما الحكم عليه ينصب على ماهيته، أي على جنسه. فما يصدُق على الماهية في فرد يصدُق على الجنس كله مهما تعددت أفراده. وبما أن الماهية متحققة كلها في الفرد الواحد، وفي كل فرد، والفرد الواحد يموت، معناه جنس الإنسان يموت. أمّا المشاهَدة فإنه لا يجوز أن تُحكَّم لأنها مشاهَدة لغير المطلوب البرهان عليه، فهي مشاهَدة للمجموع وهو غير الجنس. فهي فوق كونها مشاهَدة ناقصة لا تحكَّم لأنها ليست الجنس. ألا ترى أن الماء في البحار لا تنفد مهما أخذتَ منها، وهذا يعني أنها ليست محدودة، وأن البترول لا ينفد مهما أخذتَ منه وهذا يعني أنه ليس محدوداً؟ ألا ترى أن القمح يتزايد مع الاستهلاك الكثير منه؟ فإذا نظرنا إلى مجموعه معناه لا ينفد، مع أن الواقع أن جنسه ينفد، ومعناه أنه ينفد. وجنس الإنسان المتمثل في الفرد الواحد يموت، معناه أن جنس الإنسان من حيث هو يموت، وعليه فإن الإنسان محدود.

والحياة محدودة لأن مظهرها فردي فقط، والمشاهَد بالحس أنها تنتهي في الفرد، فهي محدودة. إذ الحياة في الإنسان هي عين الحياة في الحيوان، وهي ليست خارج هذا الفرد بل فيه. وهي شيء يُحَس وإن كان لا يُلمس، ويفرّق بالحس بين الحي وبين الميت. فهذا الشيء المحسوس، والذي هو موجود في الكائن الحين، والذي من مظاهره النمو والحركة، هو ممثل كلياً وجزئياً في الفرد الواحد لا يرتبط بأي شيء غيره مطلقاً، وهو في كل فرد من أفراد الأحياء كالفرد الآخر سواء بسواء، فهو جنس متمثل بأفراد كالإنسان. وما دامت تنتهي هذه الحياة في الفرد الواحد فمعناه أن جنس الحياة ينتهي، فهي محدودة.

والكون محدود لأنه مجموع أجرام، وكل جرم منها محدود، ومجموع المحدودات محدود بداهة. وذلك لأن كل جرم منها له أول وله آخر، فمهما تعددت هذه الأجرام فإنها تظل تنتهي بمحدود. فالمحدودية ليست بعدد الأجرام، بل هي بكون لها أول ولها آخر، بل تثبُت بمجرد وجود الأول ومجرد أن قيل أكثر من واحد يحتم حينئذ المحدودية، لأن الذي يزيد شيء محدود، فتظل الزيادة حاصلة بمحدود لمحدود، فيظل الجميع محدوداً. وعليه فالكون محدود. وعلى ذلك فالإنسان والحياة والكون محدودة قطعاً.

وحين ننظر إلى المحدود نجده ليس أزلياً، وإلاّ لَما كان محدوداً، لأن هذا المدرَك المحسوس إما أن يكون له أول فيكون ليس أزلياً، وإما أن يكون لا أول له فيكون أزلياً. وثبت أن المحدود له أول فلا يكون أزلياً، لأن مدلول الأزلي أن لا أول له، وما لا أول له لا آخر له قطعاً، لأن وجود آخر يقتضي وجود أول، لأن مجرد البدء لا يكون إلاّ من نقطة، وهذا يعني أن النهاية لا بد منها ما دام قد حصل البدء من نقطة، سواء أكان ذلك في الزمان أم المكان أم الأشياء أم غير ذلك. وهذا حتمي في الحسيات، وكذلك حتمي في المعقولات، لأن المعقولات هي حسيات، وما لم تكن حسيات لا تكون معقولات. وعليه فكل ما له أول له آخر، فمدلول الأزلي أنه لا أول له ولا آخر له، فهو غير محدود. فالمحدود ليس أزلياً. فكون الكون والإنسان والحياة محدودة معناه ليست أزلية وإلاّ لَما كانت محدودة. وما دامت ليست أزلية فهي مخلوقة لغيرها. فالكون والإنسان والحياة لا بد أن تكون مخلوقة لغيرها. وهذا الغير هو خالقها أي هو خالق الكون والإنسان والحياة. فوجودها يدل على وجود خالق.

والخالق إما أن يكون مخلوقاً لغيره أو خالقاً لنفسه أو أزلياً، ولا يمكن أن يكون غير واحد من هذه الثلاثة. أمّا أنه مخلوق لغيره فباطل لأنه يكون محدوداً، وثبت أن الخالق غير محدود. وأمّا أنه خالق لنفسه فباطل، لأنه يكون مخلوقاً لنفسه وخالقاً لنفسه في آن واحد، وهذا باطل أيضاً. فلا بد أن يكون أزلياً لا أول له، لا يستند إلى شيء والأشياء تستند إليه، وهو مدلول كلمة الله تعالى، أي هذا المسمى يعني هو الله تعالى. أي أن المتصف بهذه الصفات هو الخالق قطعاً وهو الله تعالى. فإدراك هذا الوجود حصل بالحس لأنه واقع محسوس، ولكن ذات الأزلي، أي ذات الله لا تُحس فلا يُطلب من العقل أن يدركها مطلقاً.