عرض مشاركة مفردة
  #11  
قديم 11-04-2006, 06:40 AM
محمد إبراهيم محمد إبراهيم غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Feb 2006
المشاركات: 35
إفتراضي

الحلقة الثالثة:

أبدأ هذه الحلقة بأمرٍ سبق أن ألمحت إليه في الحلقة الأولى، وهي مسألة أني لم أكن صوفياً قط رغم ممارستي لبعض شعائرهم، وتأثري بهم في بعض الأمور حينها، ومجالستي لهم معظم وقتي خلال تلك الفترة. أعلم أنه قد يوافقني في هذا الأمر أو الرأي قارئ ويختلف معي آخرون، لكن لعلي أوغلُ في التلميح وأترك التصريح في هذا لأمرين، الأول هو أني سبق أن عرّضت إلى أني كنت شديد التأثر بالفكر المعتزلي البعيد عن الفكر الصوفي الأشعري وإن توافقا في قلة من مسائل العقيدة، وحين حزمت أمتعتي مفارقاً فكر الإعتزال بحثاً عن الحق عاهدت نفسي أن لا أُسلم عقلي وديني لمخلوق أياً كان مذهبه وإتجاهه حتى أصل إلى شاطئ الأمان، وقد كافئني صاحب الامتنان عليّ دوماً الذي مدّ لي في العمر حتى ذقت طعم الهداية وعشت سلامة المنهج وأسأله أن يحسن خاتمتي وخاتمة كل مسلم. الثاني هو أني قد جعلت هدفي لهذا السرد ما دبجته في العنوان، ولا يمنع أن أفرد لقصة الهداية عنواناً آخر، يستنبط العبر منه أخوةٌ لي في الدين، وشبابٌ يبحثون عن الحق ويتركون التعصب الأعمى والانزلاق وراء كل عاطفة يثيرها كل ناعق.

أعود لأول مولد حضرته مع صديقي...
قطع بكائي وقوف الحضور بلا استثناء مُطْرَبين مُنْشِدين، فأذهلني المنظر ولم أفهم المغزى من ذلك الوقوف الجماعي. مسحت دموعي بطرف كم الثوب الذي عليّ، ثم وقفت وبادرت صديقي متسائلاً عن سر هذا الوقوف!! فلم يجب، وكنت أشعر بالحرج الشديد، إذ أن منظري الغريب وقيامي متأخراً جعل الأنظار تتوجه إلي إضافة إلى شعوري الداخلي بأني غريبٌ عنهم. ولقد كنت شديد الحرص أن لا يتنبه لذلك أحد، كون أني أتيت لأرى وأبحث في مسألة المولد وأحتاج إلى صفاء ذهن وبُعد أعين الناس عني. المهم أن طرب بعض الحاضرين وتمايلهم أثناء وقوفهم، وانخفاض رؤوس آخرين كدلالة على التأثر والخشوع، جعلني أكرر على صديقي السؤال بإلحاح.
فأجابني: لقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم، لذا تجد المجلس قائماً إجلالاً وتعظيماً!!
قلت له: أين هو؟
فبدت علامات الإستياء من سؤالي على وجه صاحبي قائلاً: النبي صلى الله عليه وسلم حضر بروحه، ولهذا لم تره.
قلت: حسناً، لكن أين روحه الآن؟ أقصد عند من تقف الآن؟
فقال: لا أدري، انتظر إلى أن نخرج ثم نتكلم في ذلك..
أحسست أني ضايقته بالأسئلة، لكني كنت أبحث عن ديني ولم أكن أهتم إن تضايق أحد من أسئلتي وهذرتي عليه، ذلك أن لا أحد سيُشرك معي في الحساب يوم القيامة...

انتهى النشيد وحان وقت العشاء، وكانت الولائم معدة وجاهزة في فناء المنزل. تعشينا ثم خرجنا من المنزل استعداداً للرجوع إلى الجامعة. عندما خرجت أصابتني الدهشة والحيرة تجاه ما رأيت من بعض شبابهم ورجالهم، فالذين كانوا يسحون الدمع في الداخل، هم الآن يدخنون السجائر أما الملأ دون أن يتقدم لنصحهم أحد. ولقد كان هذا المشهد يشدني في كل مرة أتيت فيها للمولد بعد ذلك اليوم..

ركبنا السيارة وإنطلقنا إلى الجامعة، والصمت هو السيد في تلك اللحظات. كنت أنتظرُ سيلاً من الأسئلة الموجهة إلي من صديقي يسألني فيها عن رأيي في المولد هذا، خصوصاً بعد ذلك العراك الصامت الذي دار بيننا بالأعين أثناء الوقوف المسمى بالحضرة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن!!

وصلنا للجامعة وذهب كل منا إلى غرفته. دخلت غرفتي وكان زميلي الذي يسكن معي في انتظار رجوعي من المولد الذي أخبرته عنه. سلمت، ثم ذهبت لأغير ملابسي وأنا أعلم أنه منتظر ومتلهف لما سأقوله حول تلك الرحلة، فلم أكلمه وكأني ما قرأت تقاسيم وجهه المتلهفة. كان الشوق عند زميلي لمعرفة تفاصيل الرحلة أقوى من أن ينتظر مبادرتي، فسارع هو بالسؤال: ذهبت؟
قلت: نعم.
قال: كيف رأيته؟
قلت: لا أدري!!
قال: كيف لا تدري وأنت من حضر..
قلت: دعني أنام وفي الصباح أشرح لك..
قال: لا. الآن تشرح لي، هل قابلت الولي صاحب الكرامات؟
قلت: نعم.
قال: هل رأيت بعض الكرامات التي حدثنا عنها صاحبك؟
قلت: لا أظن أن لديه كرامات أصلاً، فنفسي لم تلقى قبولاً له ولا إنشراحاً.
قال: الذي أفهمه من حديثك أنه كصاحبنا الذي حضر منذ مدة إلينا مدعياً أنه يطلع على الغيب.
قلت: ذاك لم يكن يدعي علم الغيب ولكنه ادعى أن له كشوفات.
قال: وما الفرق. المهم أنه أسقطك في حبائله وصدقت كذبته.
قلت: قد نالك منه ما نالني فلا تقلب المواجع ودعني أنام..
سكت، ولم يزد على قوله: تصبح على خير، فقد ساءته هذه الذكرى. وصاحب الكشوفات هذه له قصه، أقف عندها ليتنبه الناس أن يقعوا في مثل ما وقعنا فيه. وليعذرني القارئ إن أنا شرقت به أو غربت، فما أقصده من سرد تلك الأحداث هو الفائدة لا سواها.

قصة هذا الرجل صاحب الكشوفات حدثت في غرة الأحداث العصيبة التي كنت أمر بها قبل توبتي وعودتي إلى الله. وهي أن صاحبي الصوفي ذكر لي أن شيخاً قادماً من المنطقة الغربية لزيارة جامعتنا وذلك للقاء بعض شباب الجامعة، وأنه قد رتب له زيارة إلى غرفتي وحدد لي اليوم والساعة. فرحت بهذا الخبر وكدت أطير، فأخبرت زميلي الذي يسكن معي الذي لم تعجبه الفكرة وقال أنه لن يكون متواجداً في الغرفة ساعة الزيارة لأنه لا يؤمن بهذه الخرافات. كنت منتظراً لهذه الزيارة بشوق بالغ فلم أبالي برد زميلي الذي يسكن معي، وعندما حل الموعد كنت قد جهزت غرفتي وطيبتها وأزلت رائحة الدخان الذي كان يملأ فضاءها المسقوف، ورتبت عفشها المتناثر يمنةً ويسرة حتى سرقني الوقت وجاء الرجل يرافقه صاحبي الصوفي ودقا عليّ باب الغرفة ولم أكن قد أنهيت بعد لبس ثوبي. فتحت الباب وأزرار الثوب معلقة في كفي وقد أبت أن تتفكك فهي من النوع المترابط بعضه ببعض بواسطة سلسال من الحديد، ويعرفه أهل الحجاز أكثر من باقي المناطق. المهم أن الرجل دخل وحضرت لهم الشاي ودلف الرجل يتحدث وأنا مشغول أحاول تفكيك تلك الأزرار اللعينة والتي سببت لي كثيراً من الحرج. أحس الرجل بانشغالي عنه فقطع كلامه قائلاً لماذا لا تترك الذي بين يديك لوقت آخر. تركتها وجلست أتابع حديثه فإذا بفكري قد ارتحل سريعاً عن المجلس إلى حيث معناتي التي كنت أعيشها في تلك الأيام والتي أرقتني كثيراً. فتنبه الرجل لذلك وطلب من مرافقه (صاحبي الصوفي) أن يتركنا لوحدنا، فتركنا وبقيت أنا وإياه لوحدنا في الغرفة. أكمل حديثه عن بعض قصص السيرة النبوية، فلما انتهى قال: ألا تود أن تشاركني همومك..
قلت: لا أملك شيئاً من هم في الوقت الحالي ولله الحمد والمنة، إلا ما كان من أمور الدراسة العادية. من طبعي أن لا أشكو لأحد مهما كان قربه مني إلا إذا تكالبت عليّ الأمور فإني أزيح هموماً غير تلك أحس بها في تلك اللحظات ولا تعدو أن تكون أمراً طبيعياً يمر به كل البشر، وذلك لأترك مجالاً للهم الجديد فلا أسقط على وجهي من شدة ما أحمل.
أعاد علي السؤال بصيغة أخرى: ألا تثق بي؟
قلت: ليس القصد ذلك ولكن ليس بي شيء غير الذي قلته لك، ولم أكن على علم بأن صاحبي الصوفي قد أخبره بحالي كاملاً بل لم أكن أعلم أن صاحبي هذا يعلم كل تلك التفاصيل التي أخبر الرجل بها.
فاجأني بقوله: لماذا تسلك طريق الشيطان، ألأجل...................؟!!، وعرّض بهمي الذي هو السبب الرئيس في أرقي ودوامة المشكلات التي أعيشها. أصابني الذهول والدهشة من جرأة سؤاله فأخذت سلسال الأزرار من جديد مستنجداً بها لأهرب من السؤال الذي طرحه علي أعلل نفسي بمحاولة فكها مرة أخرى لكن دون جدوى.ظل كل منا صامتاً لفترة، فأخذ من السلسال من بين يدي وفكها في ثوانٍ معدودة... كنت مشوشاً قرابة الساعتين أو أكثر إلى درجة أن كل محاولاتي لفك ذلك السلسال قد باءت بالفشل، وفكها هذا الرجل في ثواني.

أخذ بعدها خطام الحديث وفكري لم يزل حائر في طريقة فكه لذلك السلسال... نسيت كل همومي وجلست أفكر: كيف استطاع تفكيك تلك العقد بسهولة. لا أخفيكم أن أرجعت سببها في نفسي إلى الكرامات التي يمتلكها فأسلمته نفسي وفكري، وبدأ يتحدث معي عن أزمتي وكيف أصنع لها حلاً، كل ذلك بالتلميح، فلم أكن لأسمح له أن تكون أسراري مرتعاً خصباً له. ثم بدأ بعرض عضلاته الكشفيه وأخذ يحدثني عن بعض أحداث طفولتي وأنا أستمع إليه في ذهول حتى جاء صاحبي الصوفي بعد أن ملّ الإنتظار في الخارج وقطع حديث الرجل وحبل أفكاره.

خرج الإثنان من عندي وقد وعداني بتكرار الزيارة في اليوم الثاني وذلك للقاء زميلي الذي يسكن معي. جاء زميلي فأخذت أحدثه عن كرامات الرجل وما فعل بسلسال الأزرار الخاص بثوبي وكيف استطاع كشف بعض جوانب حياتي في الطفولة. لقد بالغت في الوصف حتى جعلته يوافق على مقابلته في اليوم الثاني، ورتبت كذلك مقابلتين منفردتين لإثنين من أعز الزملاء عندي كانوا قد زاروني في غرفتي تلك الليلة وحدثتهم بصنيع الرجل معي. كان زميلي الذي يسكن معي والإثنين الآخرين من المقربين لي طيلة فترة دراستي في الجامعة وكانوا ثلاثتهم يثقون برجاحة عقلي الذي فقدته ذلك اليوم.

جاء الغد، وحضر الرجل وطلب مقابلة كل شخص على إنفراد. وقع زميلي الذي يسكن معي كما وقعتُ أنا في اليوم السابق، وتبعه الثاني. بقي زميلنا الرابع الذي دخل عليه وقد بدأنا نشك في أن الرجل دجال دعي، لا كرامة بين يديه ولا كشف. دخل وكان أذكانا، جلس هو يتحدث مع الرجل ويخبره بكرامات حصلت له ساعة ولادته وفترة طفولته والرجل صاحب الكشف منبهر وكأنه تلميذ عند زميلنا وكان يأخذ نفساً عميقاً كل ما سمع زميلي يحدثه بكرامة مكذوبة مدعياً أنه يعرف عنها مسبقاً.. ثم أخبر زميلي أنه على خير وأنه سيكون له شأن عظيم وخرافات تجعل الطفل يضحك في مهده.

سافر الرجل وترك الحادثة لنا ولبقية زملائنا الذين عندما عرفوا ما حصل اتخذونا هزواً بين أقراننا وحُق لهم ذلك. فلا أدري أين كانت تلك العقول عن تصديق مثل ذلك الرجل الذي لا يرقى أن يكون ممثلاً من الدرجة صفر في عالم الكذب والدجل. الأعجب من كل ذلك أني علاقتي مع صاحبي الصوفي استمرت وبقيت على حالها رغم أني صرحت له أن الرجل الذي جاءنا كذابٌ أشر.
يتبع..................
__________________
اللهم يا من رد يوسف على يعقوب.. وكشف الضر عن أيوب.. وأجاب دعاء يونس ابن متى.. اردد علينا اخواننا في كوبا..