عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 29-08-2004, 03:23 AM
Ali4 Ali4 غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: May 2003
الإقامة: الوطن العربي - ومن القطر الفلسطيني تحديدا !
المشاركات: 2,299
إرسال رسالة عبر بريد الياهو إلى Ali4
إفتراضي

قضية إجماع

كيف تسنى لعمل ناجي أن يكون له تأثير فريد في الصحافة العربية وفي القارئ العربي وهو عمل لا نجد فيه قوة الحركة كما عند الأمريكي ماك تيللي ولا متانة الخط كما لدى الإنجليزي لو، ولا الوجوه البديعة كما عند الأمريكي دافيد ليفين أو جورج البهجوري أو سمير كحالة، ولا عنف التعبير كما عند جورج سكارف، ولا المعرفة بالبيئة المحلية كما لدى الزواوي. ولا جمال الخطوط وحدتها كما لدى صلاح الليثي وتورهان سلجوك ومؤيد نعمة، ولا الغرف من الفنون المحلية أو الشعبية كما لدى الإيراني محسس أو المصري اللباد؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة الى أن الكاريكاتير على خلاف كل الفنون التشكيلية هو فن الفكرة قبل أي شيء آخر، يتراجع فيه مقياس الرسم والمهارة الى الدرجة الثانية، ومن هنا نجد الكثير من الرسامين الذين حظوا بحضور كبير وأحياناً طاغ في بلدانهم رغم أنهم لم يكونوا رسامين كبارا أمثال الفرنسي سينه والروماني ستافسكو، والمكسيكي ديوس ..الخ، على الرغم من أن الحالة الأخرى حيث يوجد رسام كبير حاملاً أفكاراً مبدعة هي الحالة الأجمل والأشد إمتاعاً.

بالعودة الى عناصر التجربة لدى ناجي، عناصر القوة في عمله التي مكنته من تحقيق ما لم يحققه العشرات من الرسامين العرب على مدى ربع قرن، لا بد من الإشارة أولاً الى أنه يعمل على قضية إجماع، قضية شكلت على مدى قرن كامل موضع ليس لها نظير في التاريخ العربي الحديث. فحجم الظلم والألم الذي عاناه الشعب الفلسطيني جعل منه رمز الظلم، ومن ثم أصبحت فلسطين بحكم الترابط بينها وبين محيطها العربي مفتاحاً، لا لتحرير الأرض وعودة الفلسطينيين لوطنهم فقط، بل مفتاحاً أيضاً لتقدم مجتمعاتنا أو تأخرها، بحيث أصبح الانتصار فيها علامة للانتصار في المعارك الأخرى كلها: التقدم، الديموقراطية، الكفاية ، العمل، التسلح ..الخ.

وهكذا أصبحت رسوم ناجي وكأنها تحكي عن الوجع الأقصى لدى العرب اليوم، أصبحت تمثل درب الآلام للقضية الفلسطينية وعناصر المقاومة فيها .. أصبحت تمثل جزءاً معلناً من ضميرها. وهذا يمكن ملاحظته في حقول إبداعية أخرى كالشعر والرواية، بحيث أصبح بعض الشعراء والكتاب يمثلون ليس فقط أدباً كبيراً بل ضميراً للقضية نفسها. ومن ناقل القول إن القضية وحدها لم تكن لتستطيع أن تفعل هذا السحر مع رسوم قليلة الموهبة، فموهبة ناجي لا يرقى إليها الشك، وإلا لكان كل الرسامين الذين تناولوها – وما أكثرهم – في موقعه نفسه !! وهو ما ليس حاصلاً بالطبع.

القادم من المخيم

والنقطة الثانية التي صنعت أهمية الرجل وقوة رسومه هي كونه أحدث نقلة في الشخصيات التي يتناولها الكاريكاتير. فأبطال الكاريكاتير – عادة – هم الشخصيات السياسية العامة: رؤساء وزراء وملوك ووزراء ..الخ، ناجي لم يفعل هذا، شخصياته من أبناء الشعب العاديين، ابناء المخيم، رجاله ونساؤه وأطفاله .. زينب ومحمد وفاطمة و حنظلة .. هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها، بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية، أصبح القارئ بمعنىآخر يطالع في رسوم ناجي، وجهة نظره هو، درجة التماهي بين القارئ وشخصيات ناجي لافتة. أعانه على إقامة تلك الصلة العميقة كون ناجي نفسه لم يأت الى الصحافة من الوسط الثقافي أو السياسي بل من قعر المخيم.

لا بد من الإشارة في هذا السياق الى شخصيته الأثيرة، الى تميمته، حنظلة، فشخصية ابن المخيم ذي السنوات العشر، ظلت تزين زوايا رسومه على مدى أكثر من عشرين عاماً، دائراً ظهره للقارئ، وكأنه يطالع الأحداث ويعلن احتجاجه عليها، هو عادة شخصية سلبية، صامتة، شاهد رافض، لكنه في لحظات نادرة يتحول الى شخص فاعل، يعلق على الأحداث أو يتناول حجراً أو يرميه..الخ. ربما يعود إصرار ناجي عليه الى كونه يمثله شخصياً – ولا أقصد أفكاره – يمثله في طفولته لحظة اقتلاعه من وطنه عندما كان في مثل عمر حنظلة.

العديد من الرسامين مثل ناجي استخدموا عناصر أو شخصيات متكررة في رسومهم مثل الشمس لدى الرسام لوري والأشخاص القزمة لدى الأسترالي – الأمريكي أوليفنت ..الخ، لكن حنظلة لم يكن لدى ناجي توقيعاً أو تعليقاً إضافياً على الرسم أو على التعليق الأساسي. كان بالأصح احتجاجاً، لحظة نقاء سياسي في بحر الأحداث والمساومات المستمرة، كأنه بإدارة ظهره يشارك القارئ موقعه في النظر الى الرسم نفسه، وهذه لحظة تماه أخرى بين رسم ناجي وقارئه، وهذا في جانب يفسر الاهتمام الذي ناله حنظلة من القارئ أو من الذين كتبوا عنه.

الكاريكاتير الحزين

نقطة ثالثة تتعلق بتأثير الكاريكاتير في القارئ، فالكاريكاتير رسم ساخر، يتناول قضية أو موقفاً أو لحظة عبث لكنه ساخر، اعتاد الرسامون أن يسخروا، أن "يتهضمنوا"، أن يُضحكوا القارئ – إن تمكنوا – في سياق تناولهم للموضوعات، ناجي ذهب في الاتجاه المعاكس، لم تكن رسومه ساخرة، بل كانت على العكس حزينة، كانت رسوماً تتحدث عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن رسومه حزينة فلقد كانت جادة، تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية.

الغناء في أحد وجوهه – غير الحاجة النفسية أو الجمالية له – فرح، غير أن الغناء العراقي – مثلاً – حزين، حزين وآسر، كم تشبه رسوم ناجي الموال العراقي.

هكذا تجاوبت رسوم ناجي مع تلك الحاجة الداخلية العميقة لإنسان المنطقة مع التعبير الحزين عن حياته المضنية المحاكة بالسواد.

الخوف من اليأس

نقطة رابعة في مسيرة هذا الرجل: شجاعته، فلم تكن لديه حدود لقول كلمة الحق التي آمن بها، ليرض من يرضى، وليعاده من يعاديه، ففلسطين ليست مكاناً لقول رخو أو متواطئ. وعليه فتحت رسومه نارها على الأنظمة الديكتاتورية، على رجال المخابرات ، على القيادات المستسلمة، على الطوائف، على الطائفية، على تضليل الإعلام على تهاون المثقفين، على القمع في كل بلدانه، وأيضاً على الوضع الفلسطيني الداخلي، على التحزب الضيق، على الصراعات الفلسطينية، على نزعة الهيمنة على القرار، على الميل للمساومة، على القابلين بالقرارات الخاصة بفلسطين، على المفرطين والباحثين عن أي مقعد في قطار التسوية ..الخ، وهو في كل ذلك لم يجلب لنفسه إلا أعداءً فوق أعداء.

قال لي في غرفته الصغيرة في جريدة السفير عام 1980 إنه لا يخشى التهديدات، ولا يحسب أي حساب لها، وإن خشيته الوحيدة هي أن يصل اليأس الى قلبه، والحقيقة أنه لم يصل اليأس أو الخوف الى ذلك القلب الجسور.

بالطبع، لم يكن ناجي يقول نقده الحاد في غرف مغلقة، كان رأيه ينشر على الملأ، ولم يمر الأمر دون ثمن بالطبع. فلقد كلفت شجاعة ناجي أن يعيش تحت الضغط والتهديد، وأُجبر على مغادرة البلدان التي يعمل فيها أكثر من مرة، بل أصبح الأمر كابوساً في السنوات الأخيرة عندما أصبحت التهديدات الهاتفية يومية متوعدة إياه بالتصفية، غير أنه لم يساوم وبقي وفياً لقيمة السياسية والأخلاقية، وأن الناس تنتظره كل صباح وتراهن عليه.

ولا بد من القول إن فترة ازدهار رسوم ناجي وقعت لحسن حظه – إن جاز القول – بين هزيمتين (1967 و 1982) وحرب (1973) وعبرتها حرب أهلية طاحنة، رافق كل ذلك أعلى ازدهار لفكرة الرفض والمقاومة، وأكبر الهزائم لها أيضاً، مما يعطي المناخ المفتوح للأهواء القصوى السياسية وهو ما كان يناسب مزاج ناجي الملتهب.

الملك ميدياس

النقطة الخامسة هي قدرته على توليد الأفكار وتنويع موضوعاتها، أي أنه كان يرسم عشرات الموضوعات التي تمس قضيته الأساس فلسطين، وهكذا كان يرسم عن اللاجئين، عن فقراء الفلسطينيين، عن المخيمات، والمجالس الوطنية، ونقاط الحدود، والجرائم الإسرائيلية، والوضع النفسي للإسرائيليين، عن استسلام الأنظمة، عن السلاح الأمريكي، عن الكتائب، عن الجامعة العربية، عن الوحدة العربية، عن الحلول المنفردة، عن تضاريس العلم الأمريكي، عن الانفتاح الاقتصادي، عن التضامن اللبناني – الفلسطيني، عن بيروت، عن التطبع، عن القمم، عن معتقل أنصار، عن المناضلين المتكرشين ..الخ.

وهذا الاستعراض المختصر لموضوعاته يلقي الضوء على أنه لم يقتصر في تناوله للقضية – كما حال الكثير من الرسامين – على إدانة إسرائيل وتحالف الولايات المتحدة معها، بل كان يتناول كل انعكاساتها على الوضع العربي، وهو كان معنياً بتحمل مسؤوليته عن كشف اتجاهات الأحداث.

وباستعراض الآلاف من رسومه يظهر بجلاء الى أي حد كان يعتبر في قرارة نفسه أن دور الكاريكاتير يتصل بنشر وعي بالقضية، وعي جذري، نقي، مفارق للخط الرسمي العربي – الفلسطيني.

هذا يقودنا الى الحديث عما هو أهم من تعدد موضوعاته ودرجة وعيه لدور الكاريكاتير، يقودنا للحديث عن موهبته، فقدرته على الابتكار قدرة أخّاذة، وهو لا يتوانى عن استخدام كل ما يحيط به من إشارات جرافيكية لقول جديد وجميل وعميق من أشكال القذائف الى لغة نشرات الأخبار، الى لافتات المظاهرات، الى إشارات المرور، الى براميل النفط ، الى حافلات المواصلات، الى الصليب، الى الزهرة، الى البحر والشواطئ، الى القبر واليد المرفوعة مقاومة.

وهكذا نحس أن موهبة هذا الرسام جعلته مثل الملك ميدياس، يلمس أي موضوع أو أي شكل جرافيكي فيحوله ذهباً، فكرة كاريكاتيرية جميلة عميقة، فضّاحة، بذكاء وسهولة وكأنه يشرب كأس ميرمية في مخيم عين الحلوة.

مَنْ القاتل؟!

هذه هي الجوانب الأساسية التي صنعت - باعتقادي - أهمية الرجل، وهي نقاط لا تتوافر لأي رسام بالطبع، وهي تقودنا الى الحديث عن الفصل الأخير من حياة ناجي العلي : قتله.

المعروف أن القتل حدث في أحد شوارع لندن، وردت ثلاثة أسماء في القضية التي حققت فيها أجهزة الأمن البريطانية: بشارة سمارة، إسماعيل صوان، عبد الرحيم مصطفى.

الأول كان على علم على ما يبدو بالاغتيال، وثم تسلميه فيما بعد الى إسرائيل، الثاني عميل للمؤساد تم تسريبه الى القوة 17 الفلسطينية. تم الحكم عليه بـ 11 عاماً لحيازته أسلحة، وليس متهماً بالاغتيال أو المساعدة فيه.

الثالث يُعتقد أنه هو مطلق النار على ناجي، عضو في القوة 17، اختفى إثر الحادث، ويقال أنه غادر بريطانيا والتجأ الى أحد مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية ثم اختفت آثاره، فلا يعرف له مكان، ولم يشرح لأي وسيلة إعلامية ملابسات الموضوع دافعاً التهمة عن نفسه، كما لم يصدر عن منظمة التحرير أي بيان أو إشارة حوله.

يتبين وكأن هناك رغبة غير معلنة من الجهات الرسمية البريطانية والفلسطينية والإسرائيلية بالتكتم على الموضوع وتركه يموت بالنسيان.


يتبع......