عرض مشاركة مفردة
  #7  
قديم 05-06-2003, 03:00 PM
*اليشمـــك* *اليشمـــك* غير متصل
عـــابرة سبيـــل
 
تاريخ التّسجيل: Oct 2002
المشاركات: 2,220
إفتراضي

كنت أريد أن أبصق على خيالي ، الذي يعكسه الزجاج .. على (شكل) الانسان الذي أدعي أنه موجود لدي ..

كنت أهم بأن أفعل ذلك ، لكني خشيت أن تفهم أنها هي المقصودة ..

رفعت راسها ، وأنا مازلت واقفا . كانت عيناها تلمعان من خلف غطاء وجهها . قالت ، وهي ما تزال تفرك كفيها ، لكن بوتيرة أقل :

- الظاهر أن طلبي ما كان في محله ... أو (شكلي) أحرجتك ..
- لا .. ابدا .. نمشي الآن ...

كنت على وشك أن أغلق الباب حين لمحت بقعة دم على ثوبها ، قريبا من موضع الركبة . انقبض قلبي بشدة ، وداهمني خاطر سئ .. وشعور بالغضب ، لم أستطع أن أواريه ، فقلت لها بلهجة جافة .. لا تخلو من إتهام :

- موضي .. من وين الدم هذا ..؟
- انجرحت ركبتي .. يوم طحت من السيارة ..

عيناها مازالتا تلمعان من خلف الغطاء .. معلقتان بوجهي ، الذي ارتسمت عليه علامة استفهام كبيرة .. أحست أن إجابتها لم تقنعني ، وأني لم أصدق كلامها ، فأزاحت عباءتها ، ورفعت ثوبها عن موضع الاصابة ، دون أن تتكلم ، أو ترفع رأسها .

كان جرحا سطحيا ، تيبس الدم حوله . ليس عميقا ، لكنه بدا ، بلونه الداكن ، وتشققاته ، التي أبرزها إهابها الأبيض الرقيق ، مثيرا للألم والشفقة .

أغلقت الباب ، وركبت من الناحية الأخرى . كانت ما تزال مطأطئة راسها ..

أعرف أني جرحت كرامتها ..

كثيرا ما نوقع أذى بهذا الحجم وأكثر ، بالآخرين .. وكثيرا ما يكون ذلك بدافع من الشعور بـ (طهرانية) مبالغ فيها لذواتنا .. والشعور بـ (دنس) الآخر ، وقابليته للخطيئة ، التي تحتاج إلى (مخلص) مثلنا .. لم يقف يوما في صف ، ويسمع ...

"من كان منكم بلا خطيئة .. فليرمها بحجر ..."

.. وأحيانـا نمارس الأذى ، ونوقعه بقسوة .. لا تعطي فرصة للتجاوز .. على من نحب .. بدعوى الحب ..

كيف يؤذي من يحب ...؟

حاولـت أن أغير الموضوع ، وألطف الموقف ، بسؤالها عن ماذا تريد أن تأكل ، لكنها لم ترد. فكرت أن أشتري لها سندويتشات وعصير ، لكني لا أعرف محلا قريبا ، يقدم هذا النوع من الفطائر ، وعملية البحث ستأخذ مني وقتا .

اتجهت إلى مطعم قريب ، يقدم وجبات سريعة . في الطريق إليه لمحت صيدلية .. نزلت وأشتريت شاشا ومعقما ولاصقا .

وصلنا المطعم .. قلت لها :
- انزلي ...
- إلى أين ..؟
- إلى المطعم .. لتفطري ...

نزلنا وفي قسم العائلات ، أخذنا إحدى المقصورات . كانت تتلفت .. واضح أنها تدخل مطعما لأول مرة .. قالت ببراءة :

- آكل قدام الناس ... ما يشوفوني الرجال ..؟
- لا .. أنت لوحدك هنا ..

تيقنت أنها بريئة .. ولم تتمرس على الانحراف .. تستحي أن يراها الرجال كاشفة وجهها وهي تأكل .. الحياء لا يتكلف ، ولا يصطنع ..

التظاهر في مثل هذه المواقف ، بغير الحقيقة ، يتطلب درجة عالية من الخبث ، والتمرس على المكر .. لا يمكن أن تتقنه طفلة في هذا السن ..

وأوجعني قلبي مرة أخرى .. أن ظننت بها ظن السوء ..
،
،
طلبت لها أكلا ، وسألتها إن كانت تريد عصيرا بعينه ، قالت :

- أبغي (كوتيل) ..
- تقصدين كوكتيل ...؟
- ما أدري .. أسمع البنات يقولون ، عصير (الكوتيل) حلو ...


مرة أخرى يبرح بي الألم .. تبدو لغة المحرومين .. ساذجة .. بريئة ، لكنها تدمي القلب .

يحق لك أن تزهو .. إبن الطبقة الوسطى ، أو فوقها بقليل .. تعرف الكوكتيل .. والسكالوب .. والستيك ..

ها أنت أمام كائن يشاركك نفس الكوكب ..ونفس الوطن .. بل على الطرف الثاني من المدينة .. ربما لم يعرف سائلا غير الماء في حياته .. أو معلبات الكولا ، التي تعمل عمل الأسيد في قنوات جهازه الهضمي . إنه (البرجوازي) البشع .. يتربع في داخلك .. كتمثـال من البرونز .. منصوب في ميدان ، في عاصمة (رأسمالية) .. يأتيه العمال ، والمهاجـرون المغتربون .. المسحوقون .. يتمسحون فيه .. ويطوفون حوله .. يلتقطون الصور التذكارية .. ويصطنعون عنده (لقطات فرح) .. انتزعوها من بقايا آدمية مطحونة ..

في قيعان المناجم .. أو بين هدير ألات المصانع ..

يتفصدون دما .. وعرقا ، يصنع منه طلاء .. يحفظك من الصدأ .. ويبقيك لامعا .. متوهجا .. ليؤموك مرة ، تلو أخرى ..

صرت (ربا) صنما ..

حولك .. (يولد) فرح المسحوقين ..

ومن عصارة أجسادهم تبقي لامعا .. لتسعدهم ..

أي فخر أعظم من هذا ...؟

جاء الأكل ، واستلمته من العامل ، ووضعته على الطاولة .. وقلت لها :

- أفطري .. بعد عشر دقائق أرجع لك ..
- وين تروح ..؟
- أتركك .. تأخذين راحتك ..
،
،
،
- لا .. لا تتركني .. أنا راحتي معك ..


يتبع ..
__________________






الرد مع إقتباس