عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 19-07-2003, 01:32 AM
د . عبد الله قادري الأهدل د . عبد الله قادري الأهدل غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Feb 2001
المشاركات: 609
إفتراضي الجزء الثاني..

وفي هذه الآية ذكر الله تعالى أن الكفار عندما يدخلون النار ويذوقون عذابه الشديد، ينادون بأصوات مرتفعة مستغيثين من ذلك العذاب، نادمين على الأوقات التي قضوها في معصية الله في الدنيا، طالبين الرجوع إليها، ليتداركوا ما فاتهم من العمل الصالح..

ولكن الله تعالى يبكتهم، ويذكرهم بأنه قد منحهم من الأوقات في الدنيا ما كان كافيَهم للتذكُّر والتوبة إلى الله والطاعة له، والإقلاع عن الكفر به ومعصيته، إنه العمر الذي يحاسب الله تعالى عليه صاحبه على ما قدم..

(( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )) [الزلزلة: 7-8]

ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم، الناس كلهم، من حساب الله تعالى لهم، على أعمارهم فيم أفنوها..؟، وبخاصة أيام شبابهم التي يكتمل فيها نشاطهم وقوتهم الجسمية والعقلية.

كما في حديث أبي برزة الأسلمي، قَال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يسأل عن عمره فيما أفناه؟، وعن علمه فيم فعل؟، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟، وعن جسمه فيم أبلاه؟) [الترمذي، برقم (2417) و قال: "هذا حديث حسن صحيح"].

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال، عن عمره فيما أفناه؟، وعن شبابه فيما أبلاه؟، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟، وعن علمه ماذا عمل فيه؟) [الترغيب والترهيب، برقم (5444) وقال: "رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له"].

فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين، أن الله يسأل خلقه يوم القيامة، عن كل ما أتوه في أوقات حياتهم، وهي أعمارهم، عن علمهم وعملهم، وعن ما اقترفته أعضاؤهم، وعن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها.. فابن آدم مسؤول عن عمره كله.

فلا يظنن امرؤ أنه مطلق الحرية في تصرفاته في جميع أوقاته، وبخاصة أوقات فراغه، بعيدا عن منهج الله، بل يجب أن يعلم أن أوقات الفراغ التي لا يستغلها فيما ينفعه في دينه ودنياه، هي أشد غبنا وندامة عليه من غيرها، وبخاصة من أنعم الله عليه فيها بالصحة والغنى الذي قد يتمكن به من تعاطي كثير من المعاصي التي لا يقدر على تعاطيها الفقراء..

كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قَال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ ) [البخاري، برقم (6049)].

بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، الإنسان باغتنام الفرص التي يمنحه الله تعالى في أوقات عمره، قبل أن يفقدها، فيندم على عدم اغتنامها..

كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ( اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك ). [الحاكم في المستدرك، برقم (7846) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"].

وإن من أهم ما يورد الإنسان موارد الهلاك، الغفلة والإعراض واللهو واللعب، التي تنسي صاحبها اغتنام الفرص المتاحة لاستثمار حياته في عمل الخيرات وترك المنكرات، والإعراض عن ذلك..

كما قال تعال: (( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ(1)مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ )) [الأنبياء].

بل إن هذه الغفلة لتعطل على صاحبها أدوات استقبال التوجيه الإلهي التي من الله تعالى بها عليه، حتى يصير بذلك التعطيل أحط من الحيوانات العجماء..

كما قال تعالى: (( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ )).. [الأعراف (179)].

وقد نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم – ونهيه له نهي لأمته – أن يطيع من أغفل الله قلبه عن ذكره فقال: (( ولا تُطِعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتَّبع هواه، وكان أمرُه فُرُطاً )) [الكهف: 28].

قال ابن تيمية رحمه الله:
"فالغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى: (( ولا تُطِعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتَّبع هواه، وكان أمرُه فُرُطاً ))".. [الفتاوى (14/289) والآية في سورة الكهف: 28].

وعزا ابن القيم رحمه الله الزهد عن الحياة - العليا حياة الأنبياء والرسل وأتباعهم - إلى أصلين:
أحدهما: ضعف الإيمان.
والثاني: جثوم الغفلة على القلب.

وقال في هذا الأخير:
"السبب الثاني: جثوم الغفلة على القلب، فإن الغفلة نوم القلب، ولهذا تجد كثيراً من الأيقاظ في الحس نياماً في الواقع...".. [مدارج السالكين (3/284)].

ووصف سيد قطب رحمه الله أصحاب الغفلة واللهو في كتابه [في ظلال القرآن] في مطلع سورة الأنبياء فقال:
"مطلع قوي يهز الغافلين هزاً، والحساب يقترب وهم في غفلة، والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى، والموقف جد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته، وكلما جاءهم من القرآن جديد، قابلوه باللهو والاستهتار واستمعوه وهم هازلون يلعبون (( لاهية قلوبهم )) والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكر.

إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد وتستهتر في مواقف القداسة، فالذكر الذي يأتيهم، يأتيهم (( من ربهم )) فيستقبلونه لاعبين بلا وقار ولا تقديس.

والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة، تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف، وتغدوا الحياة عاطلة هينة رخيصة، إن روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة، والاستهتار غير الاحتمال، فالاحتمال قوة جادة شاعرة، والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء".. [في ظلال القرآن (17/2367) طبع دار الشروق].

وقد تعرض الغفلة للمسلم أحيانا، فيقع في معصية أو ترك طاعة بوسوسة من عدوه الشيطان، ولكن تقواه تدفعه إلى ذكر ربه فيتوب إليه اقتداء بأبيه آدم الذي عصى ثم تاب.

كما قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ )). [الأعراف (201)].

وهذا هو العلاج الناجع للغفلة عندما تعرض للمسلم، وهو ذكر الله وتقواه.

وهما اللذان يفقدهما غير المسلم، ولهذا لا ينفعه إنذار ولا تذكير..

كما قال تعالى في الكفار: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )). [البقرة (6)].

وقال تعالى في المنافقين: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9)فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) (10) [البقرة].

وقال عنهم كذلك: (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ )) [المنافقون].

فعلى المسلم أن يكون يقظاً حريصاً على وقاية نفسه من وسوسة عدوه، وهواه وغفلته التي تسبب له الخسارة:

الرغبة إلى الله..

الإرادة الجازمة لعمل الخير..

اغتنام الفرص قبل فواتها..

1-الشباب قبل الهرم..

2-الفراغ قبل الشغل..

3-الصحة قبل المرض..

4-الغنى قبل الفقر..

5-الحياة قبل الموت..

الإجازات لا تسقط العبادات..

الإجازات التي تمنح للعاملين، في أي عمل كان، هي تنظيم إداري وعقد بشري يجب الوفاء به، لقول الله تعالى: (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )) [المائدة (1)]

ولكنها لا تسقط حقوق الله وحقوق عباده عن أهل الإجازات.

فهناك فروض العين التي تجب على كل مسلم، سواء كان قائماً بوظيفته أو في إجازته، كالصلوات الخمس وصيام رمضان...

وهناك فروض الكفاية التي إذا قام بها طائفة من المسلمين قياما كافيا، سقطت عن غيرها، مثل إمامة المصلين في المساجد، وبيان الحلال والحرام للناس، وعلاج المرضى، وإطعام الجائعين...

وهناك التنافس في الطاعات – وإن لم تكن فرض عين ولا فرض كفاية – ينبغي للمسلم الحرص عليها والمنافسة فيها، كنوافل الصلاة الراتبة وغيرها، وبخاصة قيام الليل، والصيام وبخاصة يومي الإثنين والخميس، والأيام البيض، والصدقات وقراءة القرآن ... وغير ذلك.

قال تعالى: (( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) [آل عمران (133)].

وقال تعالى: (( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ )) [المؤمنون].

وقال تعالى: (( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) [البقرة (148)].

وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين، يهجرون مضاجعهم ليتقربوا إليه سبحانه ويقفوا بين يديه متضرعين، يخافون عذابه، ويطمعون في رحمته وثوابه..

كما قال تعالى: (( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(15)تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(16)فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (17) [السجدة].

وقال تعالى: (( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )) [الفرقان (64)].
__________________
الأهدل