عرض مشاركة مفردة
  #1  
قديم 17-05-2001, 07:42 PM
الصقر99 الصقر99 غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2001
المشاركات: 7
Post انتحار أم استشهاد ؟

العمليات الاستشهادية في ميزان الشرع

الشيخ سلمان العودة


إن مسألة ما يسمى بـ ( العمليات الاستشهادية ) من المسائل الحديثة التى لا تكاد تجد نصاً عليها في كتب الفقهاء المتقدمين ، وذلك لأنها من أنماط المقاومة الحديثة التى طرأت بعد ظهور المتفجرات وتقدم تقنيتها .

وهي في الغالب جزء مما يسمى بـ "حرب العصابات" التى تقوم بها مجموعات فدائية سريعة الحركة ، وقد برزت أهمية مثل هذا اللون من المقاومة في الحرب الأهلية الأمريكية ، وفي الحرب العالمية الثانية وما بعدها ، وصارت جزءاً من نظام الحروب الذي يدرس في المعاهد والأكاديميات الحربية .

وقد احتاج إليها المسلمون على وجه الخصوص لأسباب عديدة :

أولا : منها ماجبلوا عليه من الفدائية والتضحية وحب الاستشهاد ، ورخص الحياة عليهم إذا كانت ذليلة ، فالموت العزيز لديهم خير من الحياة الذليلة.


لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ --- بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ


ثانيا : ومنها مايتعرضون له في عدد من بلادهم من سطوة أعدائهم وجراءتهم عليهم نظراً لتخلفهم العلمي والتقني والحضاري ، وتفوق أعدائهم في هذا المضمار ، فصارت بعض البلاد الإسلامية كلأً مباحاً للمستعمرين والمحتلين ، وهذا مانشاهده في أرض فلسطين المباركة ، وفي كشمير ، وفي أرض الشيشان ، ومن قبل في أفغانستان ، إضافة إلى الجمهوريات الإسلامية التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي من قبل .


ثالثا : ومنها ضيق الخيارات لديهم ، فإن من عوامل قوة الإنسان أن تعدم الخيارات لديه أو تقل ، وبهذا تطيب له الحياة ، لأنه لا شئ لديه يخسره ، وهذا يمنحه طاقة جديدة .


ولهذا كثر التساؤل عن مثل هذه العمليات التي يسميها بعضهم " بالعمليات الاستشهادية " إيذاناً بمشروعيتها ، ويسميها آخرون بـ " العمليات الانتحارية " إيذاناً بمنعها أو تقليداً لوسائل الإعلام .

وقد اختلف فيها الفقهاء المجتهدون منعاً أوإذناً بحسب ماظهر لهم من النظر والترجيح .

وبمراجعة الحالات المشابهة في النصوص الشرعية ، و الوقائع التاريخية نجد مايمكن الاستئناس به في أمر هذه المسألة :

أولا : ففي مصنف ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق ( وهو صدوق مدلس ) عن عاصم بن محمد بن قتادة قال : قال معاذ بن عفراء : يا رسول الله ، مايضحك الرب من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسراً . قال : فألقى درعاً كانت عليه ، فقاتل حتى قتل .
وصححه ابن حزم في المحلى (7/294) وذكره الطبري في تاريخه (2/33) عن عوف بن الحارث ، وهو ابن عفراء ، وهكذا في سيرة ابن هشام (3/175).


ثانيا : وقد روى ابن حزم في المحلى (نفسه) عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت رجلاً سأل البراء بن عازب : أرأيت لو أن رجلاً حمل على الكتيبة ، وهم ألف ، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء : لا ، ولكن التهلكة أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده ، ويقول : لا توبة لي . قال : ولم ينكر أبوأيوب الأنصاري ، ولا أبوموسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده على العسكر الجرار ، ويثبت حتى يقتل .


ثالثا : قصة أبي أيوب في القسطنطينية معروفة مشهورة ، وفيها أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس ، وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة ؟ فقام أبو أيوب . فقال : أيها الناس إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل إنما نزلت فينا معشر الأنصار ، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سراً ، دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ماضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم الآية …إلى أخر الحديث . وهو في سنن الترمذي (2898) وقال : حسن صحيح غريب . ورواه أبو داود (2151).


رابعا : كما روى أهل السير ، وابن المبارك في كتاب الجهاد (1/134) قصة البراء بن مالك وإلقاءه نفسه بين المرتدين من بني حنيفة . وفي بعض المصادر كالسير (1/196) وغيرها أنه أمر أصحابه أن يحملوه على ترسٍ على أسنة رماحهم ، ويلقوه في الحديقة ، فاقتحم إليهم ، وشد عليهم ، وقاتل حتى افتتح باب الحديقة ، وجرح يومئذٍ بضعةً وثمانين جرحا ، وأقام عليه خالد بن الوليد يومئذٍ شخصاً يداوي جراحه . ونحو هذا في ثقات ابن حبان ( 2/175 ) و تاريخ الطبري (2/281) و غيرهما . وقريب منه قصة البراء رضي الله عنه بتستر .


خامسا : وروى أحمد عن أبي إسحاق ، قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين ، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال: لا. لأن الله عز وجل بعث رسول الله صلى عليه وسلم فقال : {فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك} إنما ذاك في النفقة .


سادسا : وقد جاء في صحيح مسلم رحمه الله من حديث صهيب الطويل المعروف ، قول الغلام ـ الذي عجزوا عن قتله ـ للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك ، قال: وماهو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهماً من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل: بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني … الحديث ، وفيه أن الملك فعل ما أمره به ، فمات الغلام ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام .. الحديث . والحديث في المسند(22805) وغيره . فهذا الغلام قد أرشد الملكَ إلى الطريقة التي يتحقق بها قتله ، ثم نفذها الملكُ ، وتحقق بها ما رمى إليه الغلام من المصلحة العظيمة العامة من إيمان الناس كلهم بالله بعدما بلغهم خبره ، وما أجرى الله له من الكرامة .


سابعا : وفي حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله : ( الذين يلقون في الصف الأول فلا يلفتون وجوهم حتى يقتلوا ، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة ، ويضحك إليهم ربك ، إن ربك إذا ضحك إلى قومٍ فلا حساب عليهم). رواه ابن أبي شيبة (4/569) و الطبراني ، وأبو يعلى ، وابن المبارك في الجهاد ، وأبو نعيم في الحلية ، وغيرهم . وقال المنذري : رواته ثقات .


ثامنا : كما روى ابن أبي شيبة عن مدرك بن عوف الأحمسي قال : كنت عند عمر رضي الله عنه فقال….وفيه : يا أمير المؤمنين ، ورجل شرى نفسه ، فقال مدرك بن عوف : ذاك والله خالي يا أمير المؤمنين ، زعم الناس أنه ألقى بيده إلى التهلكة فقال عمر : كذب أولئك ، ولكنه ممن اشترى الآخرة بالدنيا.


تاسعا : وقال محمد بن الحسن الشيباني في السير (1/163) أما من حمل على العدو فهو يسعى في إعزاز الدين ، ويتعرض للشهادة التي يستفيد بها الحياة الأبدية ، فكيف يكون ملقياً نفسه إلى التهلكة ؟ ثم قال : لابأس بأن يحمل الرجل وحده ، وإن ظن أنه يقتل ، إذا كان يرى أنه يصنع شيئاً ، فيقتل أو يجرح أويهزم ، فقد فعل ذلك جماعة من الصحابة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، ومدحهم على ذلك ، وقيل لأبي هريرة : ألم ترَ أن سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل ، وألقى بيده إلى التهلكة ، فقال : كلا ، ولكنه تأوّل آيةً في كتاب الله {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله}. فأما إن كان يعلم أنه لا ينكي فيهم ، فإنه لا يحلُّ له أن يحملَ عليهم ، لأنه لا يحصل بحملته شيء مما يرجع إلى إعزاز الدين ، ولكنه يقتل فقط ، وقد قال تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم ...} فإذا كان لا ينكي لا يكون مفيداً فيما هو المقصود ، فلا يسعه الإقدام عليه .


عاشرا : وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو أن الجمهور صرحوا بأنه إذا كان لفرط شجاعته ، وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يـجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن . ومتى كان مجرد تـهورٍ فممنوع ، لا سـيما إن ترتب على ذلك وهن المسلمين . ( انظر: سبل السلام 2/473 )


الحادي عشر : وقيده في حاشية الدسوقي (2/208) بأمرين : أ- أن يكون قصده إعلاء كلمة الله .
ب-وأن يظن تأثيره فيهم .


الثاني عشر : وذكر ابن العربي (1/166) أن الصحيح جواز إقدام الرجل الواحد على الجمع الكثير من الكفار : لأن فيه أربعة وجوه : الأول : طلب الشهادة .
الثاني : وجود النكاية .
الثالث : تجرئة المسلمين عليهم .
الرابع : ضـعف نفوس الأعداء ، ليروا أن هذا صنع واحد منهم ، فما ظنك بالجميع ؟


الثالث عشر : وقال ابن تيمية كما في الانصاف (4/116) : يسن الانغماس في العدو لمصلحة المسلمين ، وإلا نهي عنه ، وهو من التهلكة . ويلحظ في غالب هذه النصوص و الأخبار أنها في رجل أو رجال انطلقوا من جماعة المسلمين وعسكرهم صوب العدو . ولكن في بعضها كما في قصة الغلام المؤمن ، ماليس كذلك .

والذى يترجح من مجموعها ـ و الله أعلم ـ أنه يجوز القيام بعملية من هذا النوع المسؤول عنه بشروط تستخرج من كلام الفقهاء ، ومن أهمها :


أولا : أن يكون ذلك لإعلاء كلمة الله .


ثانيا : أن يغلب على الظن ، أو يجزم ، أن في ذلك نكاية بالعدو ، بقتل أو جرح أو هزيمة أوتجريءٍ للمسلمين عليهم أوإضعاف نفوسهم حين يرون أن هذا فعل واحد فكيف بالجماعة . وهذا التقدير لا يمكن أن يوكل لآحاد الناس وأفرادهم ، خصوصاً في مثل أحوال الناس اليوم ، بل لابد أن يكون صادراً عن أهل الخبرة والدراية والمعرفة بالأحوال العسكرية والسياسية من أهل الاسلام وحماته وأوليائه .


ثالثا : أن يكون هذا ضد كفار أعلنوا الحرب على المسلمين ، فإن الكفار أنواع ، منهم المحاربون ، ومنهم المسالمون ، ومنهم المستأمنون ، ومنهم الذميون ، ومنهم المعاهدون ، وليس الكفر مبيحاً لقتلهم بإطلاق بل ورد في الحديث الصحيح كما في البخاري (2930) عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاما ) ورواه النسائي وأحمد وابن ماجه وغيرهم . والأصل إجراء عقود المسلمين على الصحة وعدم التأويل فيها ، وهذا يفضي إلى الفوضى والفساد العريض .


رابعا : أن يكون هذا في بلادهم ، أوفي بلادٍ دخلوها وتملكوها وحكموها ، وأراد المسلمون مقاومتهم وطردهم منها ، فاليهود في فلسطين ، والروس في الشيشان ممن يمكن تنفيذ هذه العمليات ضدهم بشروطها المذكورة .


خامسا : أن تكون بإذن الأبوين ، لأنه إذا اشترط إذن الأبوين في الجهاد بعامته ، فإذنهما في هذا من باب أولى ، والأظهر أنه إذا استأذن والديه للجهاد فأذنا له ، فهذا يكفي ، ولا يشترط الإذن الخاص والله أعلم .


ومن يقوم بهذه العمليات وفق الشروط المعتبرة شرعاً فهو بإذن الله شهيد إذا صحت نيته ، إنما الأعمال بالنيات ، يدعى له ويترحم عليه . ويجوز الصرف على هذه العمليات من بيت المال ، أومن الزكاة لأنها من سبيل الله ، أو من غيرها .

أما حد الإثخان فهو خاضع لتقدير أهل الشأن والخبرة كما ذكرنا ، بحيث يتحقق العلم ، أو يغلب على الظن أنها ستوجع فيهم قتلاً أو جرحاً ، أو تحدث فيهم ضرراً بليغاً ، أو تنشر فيهم رعباً ، أوتحملهم على الرحيل إلى ديارهم ، دون أن يكون لها مردود سيء أكثر من ذلك مثل الانتقام من الأبرياء ، أو تهديم المدن والقرى ، أو الانجرار إلى حرب شاملة لايقوى عليها المسلمون ، ولم يستعدوا لها، وما أشبه هذا مما يملك النظر فيه من آتاه الله الفهم وبعد النظر وقوة الإدراك .

والاجتهاد في هذا الباب وارد وهو عرضة للخطأ والصواب ، ولكن يتقي المسلمون ربهم ما استطاعوا والله أعلم .

كتبه سلمان بن فهد العودة