عرض مشاركة مفردة
  #4  
قديم 06-07-2005, 09:16 AM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي

ولأجل أن يدرَك تعريف المجتمع إدراكاً حقيقياً لا بد من التعمق في دراسته، فالعلاقات إنّما تنشأ بين الأفراد بناء على مصالحهم. فالمصالح التي للأفراد هي التي أنشأت العلاقات. وهذه المصالح لا بد أن تتحد أفكار الأفراد عليها بأنها مصلحة أو ليست مصلحة حتى تنشأ العلاقة، ولا بد أن يتحد رضاهم وغضبهم وسرورهم وحزنهم بالنسبة لها، أي لا بد أن تتحد مشاعرهم حتى توجد العلاقة، ولا بد أن يتحد النظام الذي يعالِجون به هذه المصلحة حتى توجد العلاقة، فإذا اختلفت الأفكار على المصلحة: أحدهم يعتبرها مصلحة والآخر لا يعتبرها مصلحة، أو اختلفت المشاعر: هذا يفرح بها وذاك يسخط لها، أو اختلفت الأنظمة: هذا يريد أن يعالجها بنظام معين وذاك يريد أن يعالجها بنظام آخر، إذا اختلف أي واحد من الأفكار والمشاعر والأنظمة بين الأفراد على المصلحة فإنه لا توجد بينهم علاقة أي لا يوجد مجتمع. ولذلك جاء حزب التحرير بعد أن بيّن بطلان الفكر الرأسمالي في تعريف المجتمع عرّف المجتمع بأنه مجموع من الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة، أي اتحاد الأفكار والمشاعر والأنظمة في أفراد الناس عن المصلحة يكوّن علاقات فيكون المجتمع.

وبهذا يكون الفكر الرأسمالي قد هوجم وهُزم لأن حقيقته ظهرت أنها غير مطابِقة للواقع، وتبين أن الفكر الذي هوجم به حق لأنه مطابِق للواقع، فيكون فكر حزب التحرير في هذه المسألة قد هَزم الفكر الرأسمالي.

وهكذا، فلو كان الفكر الذي هاجم الإسلام به الرأسماليون وتحدّوه صحيحاً لكان الذي هُزم هو الإسلام وليس المسلمين، ولكن لمّا كان الفكر الذي هاجموا به الإسلام غير مطابق للواقع في حقيقته، وكان الفكر الإسلامي الذي هوجم هو المطابق للواقع في حقيقته، لذلك كان الفكر الإسلامي الحق قد تحداه فكر باطل، ولكن حَمَلَته لم يكونوا واعين عليه، مع ضعف في الإيمان به، ولذلك هُزموا تلك الهزيمة المنكَرة.

هذا بالنسبة لأفكار الإسلام وأحكامه التي هوجمت بأفكار وأحكام رأسمالية، أمّا بالنسبة لمهاجمة الشريعة الإسلامية بالمسائل الجديدة وبالمسائل التي لا توجد إلاّ في المجتمع الرأسمالي للوصول إلى أنها –أي الشريعة الإسلامية- غير قادرة على معالجة المشاكل المتجددة، فإن الصعيد الذي وضعه الغربيون ليجري البحث على أساسه هو إعطاء رأي النظام الرأسمالي في المشكلة، ومهاجمة الإسلام بأنه لا يوجد فيه مثل هذا الرأي، وبأنه لا يقول بمثل هذا القول، ووصلوا من ذلك إلى أن الإسلام تشريع جامد لا يستطيع أن يساير الزمن، ولا أن يعطي الحلول التي تتطلبها مشاكل كل عصر، فهو حين يقصر عن إيجاد إباحة للربا وقد صار العصر يتطلبه، وحين لا يقدر أن يبين حكم التأمين مع أن التجارة والصناعة التي وُجدت في هذا العصر تقتضيه، وحين لا تجد فيه بياناً للعلاقات التجارية بين الدول حسب ما يتطلبها العصر، فإنه لا يصلح أن يكون تشريع أمّة أو نظام دولة في هذا العصر الحديث وفي العصور المتجددة التي تتجدد فيها المشاكل والحوادث بما يتطلبها العصر.

هذا هو صعيد البحث الذي وضعه الغربيون وأجروا البحث مع المسلمين على أساسه، وتحدّوا نظام الإسلام عليه. فجرى المسلمون معهم على هذا الصعيد، ولذلك حصل لديهم الاضطراب لعدم جواز إجراء البحث على هذا الصعيد، بل لعدم إمكانية إجرائه عليه مع بقائه بحثاً منسجماً مع أصوله وفروعه. فإن صعيد البحث متى اختلف فقد اضطرب البحث، فصعيد البحث هنا هو هل الشريعة الإسلامية تصلح لأن تكون ميداناً للتفكير فيمكن استنباط جميع أنواع العلاقات بين الإنسان من أدلتها؟ وهل يفسح فيها مجال واسع للتعميم فيمكن بمنطوق أدلتها ومفهومها أن تشمل الحوادث المتجددة والمتعددة لتنجر أحكامها عليها؟ وهل هي تربة خصبة لإنبات القواعد الكلية والأفكار العامة؟ وهل فيها قابلية لأن تعالج مشاكل الشعوب المختلفة البيئات والجنسيات؟ فإذا كانت كذلك كانت شريعة صالحة، وإلاّ فلا.

وللاستدلال على هذا تُعرض المسائل الجديدة عليها ويُطلب رأيها فيها وتُبحث فيها نصوصاً من حيث إمكانية الاستنباط للأحكام والقواعد، وإمكانية اندراج المسائل المتعددة تحتها. وهذا هو صعيد البحث. أمّا طلب إعطاء الرأي الذي يقوله النظام الرأسمالي، أو يسود في العصر، أو تقول به الأكثرية، فهذا ليس صعيداً للبحث ولا يجوز أن يكون، لأن الموضوع هو صلاحية الشريعة للعصر ولكل عصر وليس إخضاعها لأن تكون قابلة لتعطي رأياً معيناً. وعلى هذا يُبحث في أصل التشريع الغربي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى على ما هو عليه كما ورد في أساسه، أم غير صالح إلاّ بالتأويل والتفسير والبعد عن الأساس. ويُبحث في التشريع الإسلامي والأساس الذي يقوم عليه، ثم يُبحث في كونه صالحاً لأن يعالج مشاكل كل عصر ويبقى كما هو عليه كما ورد في أساسه من غير أي بعد عن الأساس.
وبهذا يتبين واقع التشريع الحق من واقع التشريع الباطل. فالتشريع الحق هو الذي يكون أساسه حقاً مطابقاً للواقع وللفطرة، ويكون هذا الأساس يقينياً مقطوعاً به لا ظنياً فيه قابلية الخطأ والصواب. وأمّا صلاحيته لكل عصر ولكل شعب ولكل جيل فإنها تظهر بقدرته على إعطاء رأي في أي مشكلة تعرض للإنسان في أي زمن وفي أية بلاد، أي بكونه خطوطاً عريضة يُستنبط منها كل حل دون أن يَبعُد عن الأساس الذي قام عليه، بل دون أن يبتعد عن الخطوط العريضة نفسها المنبثق عنها هذا الحل. فإذا توفر في التشريع ذلك كان صالحاً لكل عصر، وإذا لم يكن قادراً على إعطاء الرأي إلاّ بالتفسير والتأويل والبعد عن الأساس وعن الخطوط العريضة فإنه يكون تشريعاً خاصاً بشعب معين وبوقت معين، ولا يصلح للإنسان، ولا يصلح حتى لهذا الشعب إلاّ لفترة معينة، ثم تنتهي صلاحيته فيُغيَّر ويؤتى بغيره. فكان ينبغي أن تُعرض المسائل المتجددة على الإسلام من حيث واقع المشكلة لا من حيث رأي النظام الرأسمالي فيها، فيُنظر حينئذ إذا كان يمكن أن يُستنبط حل لها من خطوطه العريضة ويبقى على الأساس الذي قام عليه الإسلام وعلى أساس الخطوط العريضة نفسها أم لا.

والناظر في التشريعين الغربي والاسلامي يجد أن التشريع الغربي باطل الأساس، فاسد المعالَجات، عاجز عن إعطاء الحلول للمشاكل الجديدة إلاّ بعد ترك الأساس والبعد عنه وإعطاء حل لا يمُت إليه بصلة بل يناقضه. والناظر في التشريع الإسلامي يجد أنه صحيح الأساس، وأن أساسه قطعي وليس بظني، وأن معالجاته حقة مطابقة للواقع ولفطرة الإنسان وأنه فيه القدرة على استنباط أي رأي لأية مشكلة دون أي بُعد عن الأساس الذي يقوم عليه، أو عن الخطوط العريضة التي تُستنبط منه.

أمّا بالنسبة للتشريع الغربي فإنه يقوم على أساس فهم الحق فهماً خاطئاً، ويبني على هذا الفهم جميع نظرياته التشريعية. فقد عرّف الحق لدى الغربيين "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون". فهذا الفهم للحق خطأ، ولذلك كانت جميع التشريعات التي بنيت عليه فاسدة. أمّا وجه الخطأ فيه فإن واقع الحق ليس مصلحة ذات قيمة مالية، بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية، وقد لا تكون ذات قيمة مالية. فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين: أحدهما، أنه لا يشمل المصلحة التي ليست ذات قمية مالية كالزواج والطلاق ونحوهما مما تتضمنه الحقوق الزوجية، وكحقوق الأسرة جميعها. ولا يشمل كذلك المصالح ذات القيمة المعنوية مثل المحافظة على الشرف والكرامة مما هو حق الإنسان لأنه لا قيمة مالية لها ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية تقديراً حقيقياً على الإطلاق. وثانيهما، أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير. والحق هو ذاته أساس ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته. ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.

وأيضاً فإن الغربيين قد قُسم الحق لديهم إلى قسمين رئيسيين: حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى الحق الشخصي، وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى الحق العيني. والحق الشخصي في نظرهم هو رابطة بين شخصين دائن ومدين. وقد عرّفوه "بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخوّل الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو القيام بعمل أو بالامتناع عن عمل"، والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة والصلح والإجارة والعارية والوكالة والوديعة والرهان والكفالة. أمّا الحق العيني فهو ليس علاقة في نظرهم وإنّما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وقد عرّفوه "بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين". والحق العيني متعلق بالمال لا بالشخص. وعلى أساس الحق العيني عولجت المعاملات التي يسمونها المعاملات العينية مثل حق الملكية وأسباب كسب الملكية والرهن العقاري والتأمين على الحياة وحقوق الامتياز.

فهذا التقسيم للحق لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق في المعاملات التي فرّعوها عليهما. فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جُعلت الإجارة من الحق الشخصي وجُعل رهن العقار من الحق العيني، مع أن كلاً منهما علاقة بين شخصين موضوعها المال؟

على أن التعريف فرضي مبني على فروض منطقية وليس هو وصف واقع ولا حكماً على واقع، فحين عرّفوا الحق العيني بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين، فإن هذا التعريف يعني حسب مدلوله أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء وليست بين شخص وشخص، ولكن الواقع أن العلاقة ليست ناشئة بين الشخص والشيء بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء. والمعاملات التي أدخلوها تحت مدلول الحق العيني من مثل أسباب التملك ورهن المنقول ورهن العقار والتأمين على الحياة كلها تدل صراحة على ذلك ولا تدل على غيره، أي هي علاقة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، وليست هي علاقة بين الشخص والشيء.
[/size]