الموضوع: الإدراك
عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 05-06-2005, 02:12 PM
rajaab rajaab غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2005
المشاركات: 112
إفتراضي تتمة موضوع الادراك

وإن تكرر إحساسه بهذا الواقع ظل إحساساً فقط، ولا يحصل نتيجة هذا التكرار أي فكر.

والتفكير قد يكون بحضور الواقع المحسوس وقد يكون بتصوره في الذهن وإن لم يكن موجوداً، فالإنسان قد يفكر في رجل رآه منذ سنين عندما يقرأ خبر نعيه في الجريدة، فيستحضر صورته في دماغه، والمعلومات السابقة عنه، ثم يقول للحضور : (كان هذا الرجل كريماً) مصدراً الحكم عليه في حالة غياب الإحساس به أو الإحساس بكرمه.

وقد يعقل الإنسان الطائرة ويحكم عليها عسكرية أو مدنية من سماع صوتها.

فالإحساس بالواقع قد يكون بوقوع الحس على ذلك الواقع نفسه بحاسة البصر أو غيرها، وقد يكون بوقوع الحس على متعلقات ذلك الواقع كالصوت أو الصورة، وقد يكون باسترجاع الإحساس بالواقع في الدماغ دون وجود ذلك الواقع أو أثره في مجال الحواس، وهذا ما يحدث غالباً في التفكير السياسي، فإن المحلل السياسي يستطيع بوساطة مجموعة من الأخبار أن يتصور الواقع، وأن يخرج برأي سياسي يحكم به على الواقع الذي لا يقع في مجال حواسه مباشرة.

وما يشتبه على الكثيرين وهو أن المعلومات السابقة قد تحصل من تجارب الشخص نفسه ابتداء دون أن يكون لديه معلومات سابقة عن غيره، وقد أجروا تجارب على الحيوان، ثم قاسوا الإنسان الأول على الحيوان، فأخضعوا بعض الحيوانات كالكلب والقرد والفأر لهذه التجارب، ومنها أنهم كانوا يضربون جرساً كلما قدموا الطعام إلى الكلب، وكررت العملية مراراً ... ثم ضربوا الجرس دون أن يقدموا الطعام للكلب، فسال لعاب الكلب من تكرار التجربة، وأنه صار يحكم على الواقع باستعمال هذه المعلومات التي استفادها من التجارب السابقة، ولاحظوا في المرعى أن الحيوانات تتجنب الأعشاب السامة فلا تأكلها، فحكموا أن الحيوانات صارت تفهم وتدرك حقيقة الأشياء نتيجة تجاربها السابقة التي أوجدت عندها معلومات تفسر بها الواقع.

والصحيح أن ما حصل من الحيوان هو شعور غريزي بما يشبع أو بما لا يشبع، وإدراكه الغريزي هذا ناتج عن الخاصيات التي أودعها الله فيه من أجل أن يحافظ على بقائه ونوعه، وما حصل هو استرجاع للإحساس السابق بأن هذا الشيء يشبع الغريزة أو الحاجة العضوية، فيقبل على الشيء أو يحجم عنه، ولا يستطيع الحكم على ماهيّة الشيء.

فالكلب في التجربة السابقة سمع صوت الجرس، فاسترجع الإحساس بما يشبع جوعة معدته وهو الطعام، لأن صوت الجرس أصبح جزءاً لا يتجزأ من الطعام، الذي يشبع به جوعته، فصار الجرس لا يختلف عند الكلب عن رؤيته أو شمه للطعام، فهما في حسه السابق مرتبطان معاً بما يشبع.

وهذا يتضح لو قرعنا الجرس على سمعٍ لكلبٍ آخر جائع، لم تجر عليه التجربة السابقة، فإنه لا يسيل لعابه بسماع صوت الجرس، ولكن يسيل عندما يرى أو يشم الطعام الذي يشبع جوعه، فالحيوانات لا تعقل، وإنما الذي عندها دماغ خال من خاصية الربط، وحواس تحس الواقع، وبهذا الدماغ وهذه الحواس تسترجع الإحساس بالأشياء التي تشبع والتي لا تشبع، فهي تحس، ولكنها لا تعقل كالإنسان، قال تعالى : (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً) فالآية تدل على أن الأنعام لا تعقل.

فأصحاب هذه التجارب قد أخطأوا لأنهم قاسوا الإنسان على الحيوان، مع أن خاصية الربط الموجودة في دماغ الإنسان غير موجودة في دماغ الحيوان، ولهذا السبب كان الحيوان – كما هو مدرك وكما ورد في الشرع – مخلوقاً لا يعقل، وأخطأوا أيضاً لأنهم قاسوا الشاهد على الغائب، فقاسوا الإنسان الحالي على الإنسان الأول. والقياس الصحيح هو قياس الإنسان على الإنسان، وقياس الغائب على الشاهد.

وما دام بحثنا في الإنسان، والإنسان موجود ومدركة خصائصه، وهي أنه لا يستطيع عقل الأشياء والحكم عليها دون معلومات سابقة، فأي فائدة نجنيها من معرفة الكيفية التي كان يفكر فيها الإنسان الأول ؟؟ والأولى أن نقول أن الإنسان الأول كان يملك نفس الخصائص التي يملكها الإنسان الحالي، وبما أن الإنسان الحالي لا يستطيع عقل الأشياء والحكم عليها إلا بمعلومات سابقة، فالإنسان الأول أيضاً لم يكن بمقدوره عقل الأشياء والحكم عليها إلا بمعلومات سابقة، وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم، قال تعالى : (وعلم آدم الأسماء كلها) ، وقال : (علم الإنسان ما لم يعلم) .

أما المعلومات التي تتكون لدى الإنسان من جراء تكرار إحساساته بها يشبع غرائزه وحاجاته العضوية، فإن تلك المعلومات لا تصلح للحكم على الأشياء، إلا أنها تشبع أو لا تشبع، فخاصية الربط الموجودة في دماغ الإنسان وغير الموجودة في دماغ الحيوان، تجعل الإنسان يسترجع الإحساس بالواقع بصورة أفضل وأسرع من الحيوان ... فإن قدم لإنسان فاكهة لم يرها من قبل، وأكل منها، أحس بطعمها ورائحتها، وشعر بأنها تشبع حاجته العضوية ... فإن رآها مرة ثانية استرجع دماغه المعلومات التي تكونت نتيجة إحساسه في المرة الأولى بما يتعلق بطعمها ونكهتها، وبأنها تشبع ولكن هذه المعلومات التي لها علاقة بالإشباع لا تفيد في الحكم على هذه إلا من ناحية أنها تشبع أو لا تشبع، ولكن المعلومات نفسها لا تفيد ولا تصلح للحكم على ماهية هذه المادة وللحكم على مكوناتها، فلا يستطيع الإنسان أن يحكم عليها بأنها ثمر لنبات أو أنها ناضجة أو فجة، أو أنها مكونة من سكر وأملاح وماء وفيتامينات، ومهما تكرر الإحساس بهذه الفاكهة، تظل هي المادة التي تشبع جوعته فقط، وإن أراد الحكم عليها من ناحية أخرى احتاج إلى معلومات سابقة من خارج دماغه ومن خارج الفاكهة. وبدون هذه المعلومات يظل إدراكه لهذه الفاكهة يشبه الشعور الغريزي عند الحيوان تجاه الأشياء التي تشبع جوعته.



وهناك مسألة، وهي : أيهما أسبق في الوجود الفكر أم المادة؟

وللجواب على هذا السؤال نقول :

إن المادة أسبق من الفكر بالنسبة لآدم عليه السلام، فقد علمه الله أسماء الأشياء التي كانت موجودة قبل إعطائه المعلومات السابقة عنها، فالمادة كانت موجودة قبل أي فكر إنساني، وبدون المادة (أي الواقع) لا يحصل فكر، لأن الواقع عنصر أساسي من عناصر الفكر، ولأن الفكر حكم على واقع، فإن لم يوجد الواقع لا يمكن أن يوجد فكر، فالمادة بالنسبة للفكر الإنساني أسبق من الفكر.

هذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لإيجاد المادة من عدم، فإن ما ورد بالدليل القطعي يدل على أن أمر الله سبق وجود المادة. قال تعالى : (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) ، فأمر الله (كن) سابق لوجود المادة من عدم، فالله عز وجل، هو الأول الصمد الذي لا يستند في وجوده إلى شيء، وتستند المخلوقات في وجودها إليه (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) (والذين يدعون من دون الله لا يَخلقون شيئاً وهم يُخلقون) .
الرد مع إقتباس