عرض مشاركة مفردة
  #3  
قديم 10-11-2006, 07:24 AM
السيد عبد الرازق السيد عبد الرازق غير متصل
مشرف
 
تاريخ التّسجيل: Apr 2004
الإقامة: القاهرة -- مصر
المشاركات: 1,254
إفتراضي

في الحنين والأنين!

ما زلنا نذكر أنا وغيري من ابناء جيلي ممن قزفت بهم الدنيا في سرعة عجيبة الى حدود السبعين أو تجاوزوها كيف كنّا في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي نذهب الى مكتب توفيق الحكيم في جريدة الاهرام فنستمع الى احاديثه الممتعة وملاحظاتها الذكية وسخريته المهذبة التي تكشف عن خفة ظل نادرة وكان مكتب توفيق الحكيم مفتوحا للجميع من كل الاعمار والاجيال وكانت الاحاديث التي تدور في هذا المكتب أشبه بندوة حية دائمة رفيعة المستوى وكان الذين يتيح لهم الحظ أن يشاركوا في هذه الندوة اليومية يستمتعون بها ويتغنون كثيرا بما يدور فيها من احاديث علمية وأدبية وفنية بالاضافة الى الاحاديث التي تمس القضايا العامة المطروحة على الناس‚

في الصيف كان توفيق الحكيم يقضي عدة شهور في الاسكندرية وكانت ندوته اليومية تنعقد في مقهى شهير هو مقهى «بترو» الذي كان مطعما شهيرا للأسماك في نفس الوقت وكانت ندوة «بترو» هي امتداد لندوة الاهرام وكان الذين تعودوا على أن يلتقوا بتوفيق الحكيم في القاهرة يحرصون على أن يذهبوا اليه في الاسكندرية ايضا وقد ظلت ندوة توفيق الحكيم الاسكندرانية عامرة ومليئة بالنشاط والحيوية حتى تم هدم مقهى «بترو» لإقامة عمارة كبرى بمكانها واختفى هذا المقهى التاريخي من الوجود تماما وانتقل توفيق الحكيم بعد ذلك الى فندق صغير مجاور فأقام فيه ندوته وظل حريصا على هذه الندوة حتى فترة مرضه الاخيرة والتي استمرت حوالي عام أو أكثر قليلا حيث توفي سنة 1987 وهو في التاسعة والثمانين‚

في عصر توفيق الحكيم كان هناك ندوات أخرى كثيرة تنعقد في دور الصحف أو في الفنادق أو في المقاهي الشعبية في القاهرة وكان من اشهر هذه الندوات ندوة الاديب والشاعر والصحفي الكبير كامل الشناوي فقد كان مكتبه في جريدة «الاخبار» ثم في جريدة «الجمهورية» ندوة دائمة الانعقاد وكانت هذه الندوة كثيرا ما تجمع بين المطربين والموسيقيين والادباء والصحفيين فقد كان كامل الشناوي صديقا محبوبا من هؤلاء جميعا بل الحق أنه كان زعيما بين هؤلاء‚ وزعامته كانت بسبب موهبته وكانت زعامة شعبية ارتضاها الجميع ولم تكن زعامة مفروضة بمال أو سلطان فلم يكن كامل الشناوي يملك مالا لأنه كان استاذا في الانفاق على من يلتفون حوله أو يحيطون به وكانت الآلاف المؤلفة من الجنيهات تقع في يد كامل الشناوي فتطير كالعصافير في لحظات ولم تكن هذه الاموال تبقى معه أو تستقر في يده أبدا وهو وفي اغلب الاحوال يكون قد استتدانها لانفاقها قبل أن تصل اليه وكان ينفقها على من يلتفون حوله ويطلبون عونه وكان الشناوي متحدثا لا مثيل له في خفة ظله وجاذبيته وذكائه واتساع معرفته وذاكرته الفريدة في الشعر العربي وكان إلقاؤه للشعر نوعا من الغناء البديع أما صوته الرائع فكان من معدن صوت طه حسين العميق القوي المؤثر‚

وإذا رجعنا الى الور اء قليلا في اوائل القرن العشرين فإن التاريخ يحدثنا عن أن هذا النوع من الندوات المفتوحة كان موجودا وكان له شهره وتأثير فقد كان أنطون الجميل رئيس تحرير الاهرام في تلك الفترة صاحب ندوة يومية مشهورة في مكتبه بالاهرام وكانت الاديبة العربية اللبنانية المعروفة «مي» صاحبة ندوة أخري تقيمها في بيتها بالقاهرة كل يوم ثلاثاء وكان اكبر الادباء والصحفيين وأكثرهم شهرة يلتقون في هذه الندوات المفتوحة أو يلتقون في المقاهي الكثيرة التي كانت منتشرة في وسط القاهرة‚

وقد حاولت بيروت بإلحاح شديد أن تكون امتدادا للقاهرة وقد كانت مقاهي بيروت ومطاعمها حتى بداية الحرب الاهلية سنة 1975 أماكن تجمعات ولقاءات وندوات بين اهل الفكر والأدب والصحافة ومن هذه المقاهي الشهيرة «فيصل» و«وولشي فيتا» و«ستراند» كما كانت مكاتب بعض كبار الصحفيين مفتوحة لمثل هذه الندوات وكان اشهر الجميع هو الصحفي الكبير الراحل ميشال أبو جودة في مكتبه بجريدة « النهار»‚

كانت هذه الندوات تعطي للحياة الادبية والصحفية كثيرا من الحيوية والحنان والعلاقات الدافئة والآن تغيرت الدنيا ولم يعد هناك شيء من ذلك واصبحت المشاكل والهموم تحاصر الجميع وليس أمامنا إلا البكاء على الأطلال‚
__________________
السيد عبد الرازق
الرد مع إقتباس