عرض مشاركة مفردة
  #41  
قديم 22-05-2001, 07:22 PM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Lightbulb

وبالرغم من كل العبث الذي نلمسه من مطالب الملأ من قريش نرى رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يجيبهم إجابة الداعية الواثق المستبصر ذي الرؤية الواضحة لدوره ولمهمته، يجيبهم: (ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

(بشيراً ونذيراً) يحرك مساحات العقل المعطلة في المجتمع المكي الجاهلي، ويوقظ ما نام من طاقات الفكر الإنساني، يدعو كل فرد ليتحمل مسؤولية نفسه، ويتخلص من قيود وضغوط التفكير الجماعي الذي ترعاه الفئة المستفيدة من أساطين العائلات القرشية، وهي الخائفة على مصالحها وتجارتها، و(التوحيد) يعني في قاموسها أن لا يكون للقبائل العربية آلهة في الكعبة وما حولها، وبالتالي أن تفقد مكة محورية اجتماع العرب واهتمامهم بالبيت العتيق وبسدنته، فمكانة قريش السياسية والأمنية والاقتصادية بين العرب، وأحلافها مع الشام واليمن وفارس جاءت من مكانتها في خدمة البيت العتيق.

أليسوا هم القائلين تخوفاً على مصالحهم، أولاً، وتمسكاً بالسائد الموروث ثانياً، دون إعمال فكر ولا تدبّر في آيات الله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص/5].

وهم القائلون بما لا يدع مجالاً للشك في تخوفهم على انفضاض العرب من حولهم، وعلى انهيار أحلافهم التي تحمي قوافلهم التجارية وترعى مصالحهم الاقتصادية وتنهي نعمة الأمن: {وَقَالُوا: إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}، وقد بين لهم تعالى أن الأمن والرزق من عنده لا من عند قبائل الجوار، فقال تعالى؛ في الآية نفسها: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا؟ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص/57]، وزادهم بياناً فبين لهم المثل التالي: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل/112] فالكفر وحده يقضي على نعم الله وليس الإيمان.

وهل من عاقل يسأل أن تكون آيات الله دماراً وقصاصاً: (قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل). فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك). فأي عقل جاهلي هذا الذي يطلب الدمار! وأي حِلْم هذا الذي يتمتع به الرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم) في بيان أنه لم يأت ليفرض عليهم بالقوة ما لا يعتنقوه ويقبلون عليه بإرادتهم بدون إكراه! وأن الأمر كله، لله.

أما الإصرار الذي لا يقوم على حجة من عقل أو برهان من واقع، فهو جوابهم الذي أورده جل المفسرين: (فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له (الرحمن)، وإنا والله ما نؤمن بالرحمن أبداً، أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما بلغت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا)( ).

فالأمر بالنسبة إليهم نفق مغلق لا نور في نهايته، وإنما هو تغلب أحد الطرفين على الآخر، إما قاتلاً أو مقتولاً، وشتان بين ما يدعوهم (صلى الله عليه وسلم) إليه وما يدعونه وأنفسَهم إليه: {وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر/41].