عرض مشاركة مفردة
  #34  
قديم 12-05-2001, 09:17 AM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Post

ومع السؤال الرابع من أسئلة الأخ الكريم:

4= وتسأل: في الدين الإسلامي؛ إلى أي حد تصل حرية التفكير؟

وهذا من أصعب الأسئلة، قديماً وحديثاً، لأن الخوض في هذا يحتاج – بالإضافة إلى الضوابط والأدلة الشرعية – إلى أذن واعية، وقلب حي، لا يكتفي السامع بالتقاط طرف الخيط ثم يحيك به ما يشاء، ويقول ما يفهمه أو يتصوره من موضوع التفكير وحدوده.

وكم من عالم اتهم في دينه والتزامه بسبب سوء فهم العامة له، وأقربهم إلينا زمناً، عالم الشام، الشيخ محمد جمال الدين القاسمي (المتوفى 1332هـ/ 1914م)، وكل جريمته أنه دعا إلى العودة إلى الينابيع الأولى للإسلام، ونبذ التقليد الأعمى الذي جعلنا محصورين في دائرة الحواشي، وحجب عنا المتون، وفي أقوال طلبة العلم (من جمع الحواشي، ما حوى شي، ومن حاز المتون؛ جمع الفنون).

والتقليد – كما هو الواضح والملموس – استنساخ، لا أقول للجسد وإنما للفكر، بحيث يحرص المبتلى به أن يكون صورة طبق الأصل عمن يتلقى عليه، وهي صورة لا روح فيها لأن صاحبها بالأصل ألغى نفسه من أجل أن يستمر (شيخه أو معلمه أو زعيمه) فيه.
ولقد وقعت على عددٍ وافٍ من النصوص التي توضح بدون أي مواربة أن التفكير نفسه غير محجور عليه في الإسلام، ولا حرج على المسلم أن يبحث عن حقيقة ما تحدثه به نفسه، وألا يتحرج من السؤال مهما بدا له الأمر مهولاً أو جرئياً.

وقد بوّب الإمام مسلم (رحمه الله) في صحيحه للوسوسة، وهي حديثُ الشيطان، وقد تكون حديثَ النفس، فقال:

(باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها:

عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: ثم جاء ناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به! قال (صلى الله عليه وسلم): (وقد وجدتموه)؟ قالوا: نعم. قال (صلى الله عليه وسلم): (ذاك صريح الإيمان)( ).

وعن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: ثم سئل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الوسوسة! قال (صلى الله عليه وسلم): (تلك محض الإيمان)( ).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ثم لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا؛ خَلَقَ اللهُ الخَلْق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل: آمنتُ بالله)( ).

وعن هشام بن عروة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثم يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول: اللهُ). ثم ذكر بمثله وزاد: (ورسله)( ).

وعن عروة بن الزبير (رضي الله عنه) أن أبا هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ثم يأتي الشيطانُ أحدَكم، فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقولَ له: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته)( ).

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ثم لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله)؟ قال: وهو آخذ بيد رجل، فقال: صدق الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) قد سألني اثنان، وهذا الثالث. أو قال: سألني واحد، وهذا الثاني( ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ). وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ - بِهَذَا الْإِسْنَادِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: (يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ وَزَادَ: وَرُسُلِهِ( ).

وفي البخاري (رحمه الله) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (رضي الله عنه) يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يَقُولُوا: هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ)؟( )

وبين ابن حجر في كتابه العظيم (فتح الباري) الفرق بين صدّ شيطان الجن عن الوسوسة، وصدّ شياطين الإنس عنها، قال في شرح حديث البخاري السابق:

(قوله: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها. قال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع. قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك، فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان. قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب، والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة، وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها، إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة. نعوذ بالله من ذلك( ).

فشيطان الجن مقدور على صده بالاستعاذة والتلاوة، ولكن الثاني (شيطان الإنس) لا تصده إلا الحجة والبرهان. وهذا يعني – باختصار - أن يكون المسلم متمكناً، عارفاً بالشبهات وردها، ولا يكون هذا إلا بالعلم الواعي، ولا يكون إلا بجرأة وتفكير حرّ يأخذ بيده إلى أقصى ما يمكن مما يخطر للبشر. والله تعالى أعلم.

ويقول ابن كثير (رحمه الله) في تفسيره المشهور:
(عن أُبيّ بن كعب (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: {وأن إلى ربك المنتهى}، قال: (لا فكرة في الرب). قال البغوي (رحمه الله): وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً: (تفكّروا في الخلق، ولا تفكّروا في الخالق، فإنه لا تحيط به الفكرة). وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: (يأتي الشيطان أحدَكم؛ فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقولَ: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ أحدُكم ذلك فليستعذ بالله، ولينته). وفي الحديث الآخر الذي في السنن: (تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذات الله)( ).
ففيما نقل ابن كثير إرشاد للناس كيف ينظمون تفكيرهم وإلى أي جهة يوجهونه، لا أن يتم الكبت الفكري، أو التجاهل، أو الصد، دون توجيه وتسديد صحيحين.

وينبغي علينا السعي المستمر نحو تنمية التفكير الصحيح لدى الفرد المسلم ليتمكن من فهم ما يدور حوله، والانصياع للشريعة على بصيرة ووعي، ولا يتم ذلك من خلال إهمال القدرات والقابليات العقلية والتفكيرية، وإنما يحتاج إلى مثابرة على تدريب مهارات التفكير، والإبداعي منه على وجه التخصيص.

وقد تجلت عظمة الرسول (صلى الله عليه وسلم) – فيما تجلت - في تنمية قدرات أصحابه (رضي الله عنهم) وهو يأخذ بأيديهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومن التبعية إلى القيادة، مراعياً استعداداتهم الفطرية، وقابلياتهم العقلية، وتيسير سبل الفهم لهم، ومخاطبتهم بما يناسب طاقاتهم وعقولهم وأفهامهم.

وفي المأثور عن الإمام عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه، ورضي الله عنه): (حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)( ).

وعن ابن عباس (رضي الله عنهما): (إِنَّ لِلْقُلُوبِ نَشَاطًا وَإِقْبَالاً، وَإِنَّ لَهَا تَوْلِيَةً وَإِدْبَارًا، فَحَدِّثُوا النَّاسَ مَا أَقْبَلُوا عَلَيْكُمْ)( ).

وما تقدم من حديث الإمامين الجليلين علي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس (رضي الله عنهما) صريح بأن الحكمة مطلوبة في بيان الحق للناس، وهذا لا يكون إلا بحرية تصونها الضوابط والقواعد الشرعية، التي تحتاج هي نفسها إلى أهلية لا تتوفر بدون طلب العلم والتفكر في سنن الخلْق.

والله تعالى أعلم وأحكم.

__________________
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك/22]