عرض مشاركة مفردة
  #36  
قديم 16-05-2001, 11:33 AM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Lightbulb

فالقرآن الكريم، وهو كلمة الله ووحيه إلى عباده وخلْقه، يلامس الفطرة، ويخاطب العقول، ويفتحها على أفق من الرقي ترى فيه بعين البصيرة ما لا تراه بعين البصر. ولقد يسّر الله لهم هذا الذِّكر الحكيم ليأخذ بأيديهم في دروب الهداية وسبل الفهم، يقول عز وجل:

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا(89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا(91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا(92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا(93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا(94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا(95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا(96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا(97)} [الإسراء]

وقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاس فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍِ} أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق، وشرحناه، وبسّطناه ومع هذا {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} أي جحوداً للحق، ورداً للصواب.

روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن عِلية القوم من قريش اجتمعوا، أو من اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض:

ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سريعاً وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصاً، يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم، فقالوا:

يا محمد؛ إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رِئْيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي ـ فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلّغتكم رسالات ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).

فقالوا: يا محمد؛ فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا. فاسأل لنا ربَّك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا، وليبسطْ لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قُصيّ بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول، فقال حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما بهذا بعثت، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث مَلَكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله، فيجعل لك جناتٍ وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك، إن كنت رسولاً كما تزعم.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكنّ الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم).

قالوا: فأَسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.

فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ذلك إلى الله، إن شاء فعل بكم ذلك).

فقالوا: يا محمد؛ أما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنا والله؛ لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد؛ أما والله لانتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي بنات الله.

وقال قائلهم: {لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً}.

فلما قالوا ذلك، قام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب، فقال: يا محمد؛ عرض عليك قومك ما عرضوا، فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً، ثم ترقى وأنا أنظر حتى تأتيها، وتأتي معك بصحيفة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله؛ لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وانصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أهله حزينا أسفاً لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه. [انتهت رواية الطبري]

فمن الواضح تباين مستويي التفكير بين كفار قريش الذين لم يلتفتوا إلى عمق الدعوة المحمدية، وبقوا ملتصقين بما اعتادوا عليه من ملامسة المعجزة، فطالبوا بأمور تخالف ناموس الكون وسنن الله تعالى فيه، ولم يطرحوها حباً في الإيمان، وانقياداً له، وإنما طرحوها من باب المشاكسة والتعجيز، بظنهم. حتى قال قائله: (وأيم الله؛ لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك)!

وانظر إلى حلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وحرصه على هدايتهم، ومدى تأثره لإعراضهم وتضييعهم لفرصة الحوار فيما لا طائل من ورائه، لأنه آنيٌّ والقرآن إلى يوم الدين، ولأن أثر ما طلبوا كان سيقتصر على أمور محددة لا تفيد – إن فادت أو أثّرت – إلا فيمن شاهدها، بينما ما يدعوهم إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) أبعد أثراً، وأعمق معنى مما التصقوا به من مطالب الدنيا. فالدعوة الإسلامية تخاطب الإنسان المكلّف الواعي ذي اللب والحجى، القادر على التدبر والتفكر في آيات الله، التي تنقضي الدنيا ولا تنقضي عجائبها. والله تعالى أعلم.