عرض مشاركة مفردة
  #37  
قديم 17-05-2001, 05:48 PM
صلاح الدين صلاح الدين غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: May 2000
المشاركات: 805
Post

ونضيف إلى ما تقدم من عناد مشركي قريش وارتباطهم – ككل المعاندين – بالمحسوس من الأشياء وملموسها، أنهم يعطلون تفكيرهم في آيات الله، فإن أعملوا فكرهم اتجهوا الوجهة الخطأ التي لا تؤدي بهم إلى أية نتيجة صحيحة، مما يجعل مطالبهم تعجيزاً وتحدياً في غير موضعه، ولله أن يختبر عبده وليس للعبد أن يختبر ربَّه، فمما يروى أن ‏ إبليس (لعنه الله) حين ظهر لعيسى ابن مريم (عليهما السلام)‏؛ قال:‏ ألست ‏تقول أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك؟‏ ‏قال:‏ (نعم)‏.‏ ‏‏قال:‏ فارم نفسك من ذروة هذا الجبل، فإنه إن يقدر ‏لك‏ السلامة تسلم. ‏فقال له:‏ (يا ملعونُ؛ إن للهِ أن يختبر عبادَه وليس للعبد أن يختبرَ ربَّه)( ).‏

وهذا المجلس – المذكور آنفاً - الذي جمع هؤلاء المكابرين لم يكن مجلس تفاوض ولا استرشاد، ولكنهم طلبوا ذلك كفراً وعناداً، وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما) قَالَ: قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): ادْعُ لَنَا رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، وَنُؤْمِنُ بِكَ. قَالَ: (وَتَفْعَلُونَ)! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدَعَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ (عَزَّ وَجَلَّ) يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ؛ وَيَقُولُ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ فَتَحْتُ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ! قَالَ: (بَلْ بَابُ التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ)( ).

وفي هذا ومثله من عناد المستكبرين، نزل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، فَظَلَمُوا بِهَا، وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء/59]

فهؤلاء لا يستخدمون ما وهبهم الله تعالى ليفكروا بشكل صحيح، وليصلوا – ثَمّ - إلى نتائج صحيحة، وإنما يتخذون منهجاً أبعد ما يكون عن الصحة يدفع بهم نحو الهلاك وأوله انحراف التكفير بعيداً عن الموضوعية، فليس من العجب في شيء أن يغطوا بصائرهم ويحبوها عن رؤية ما يراه المؤمنون وما يراه أولوا النهى من الناس:

{وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ! لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا(7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا. وَقَالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا(8) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا(9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا(10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا(11)} [الفرقان/7-11].

والأصل أن تكون بشرية النبي (صلى الله عليه وسلم) دليلاً على صدق دعواه، ولكن تفكير هؤلاء الملأ المادي واقتصارهم على الماديات جعلهم يعيّرونه (صلى الله عليه وسلم) بكونه بشراً يمارس ما يمارسه البشر، ويعتاش كما يعتاشون، ويأكلون ويشرب مما يأكلون منه ويشربون، وهو ليس بأغناهم ولا أيسرهم مالاً وأثاثاً.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ، وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى، وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا، مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام/111].

وانظر إليهم في مطالبهم التي يحسبوها تعجيزية: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء/90-91]

وهي مطالب تندرج تحت الحوار العبثي الذي استدعى عِلية قريش ورجالاتها رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) إليه، ولم تكن مطالب جادة، ولم يكن لها علاقة بالمستوى الفكري والعقلي والتدبّري الذي دعاهم إليه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا نزلت به آيات الذكر الحكيم.