عرض مشاركة مفردة
  #30  
قديم 27-05-2006, 01:33 AM
محمد العاني محمد العاني غير متصل
شاعر متقاعد
 
تاريخ التّسجيل: Sep 2002
الإقامة: إحدى أراضي الإسلام المحتلة
المشاركات: 1,514
إفتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
ولا تحسبنّ الذين قُتلوا في سبيل اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون
صدق الله العظيم


لم يكُن يوماً يُمكنُ نسيانُه. و كذلك كان ليلُ ذلك اليوم. كُنّا لا نزال ننام جميعاً في غرفتي كما كنا نفعل طوال فترةِ الحرب. ربما لأننا لم نقبَل حقيقةَ أن بغداد أحتُلّت و ربما لخوفنا من إندلاع معارك شوارع فيما بعد.
كُنّا قد تجمّعنا في الغرفة محاولينَ النوم. و فعلاً نام الجميع، إلا أنا. فَلَم تزل رائحة الجثث في أنفي و وجوه كُلّ الذين دفنّاهم تلاحقني في الظلام.
فجأةً..سمعنا أصوات دبابات سريعةً تقترب من المنزل. ثم أخذت هذه الدبابات بإطلاق القذائف المتتالية بعنف..بدأت أحس بصوت القذائف داخل رأسي..و قفز كلّ أهلي من نومهم..و بدأت جدّتي بالبكاء..فهي مصابةٌ بمرض السُكّري و الصدمات و الخوف تؤذيها كثيراً..
مع القذيفة الثالثة أو الرابعةِ بدأ زجاج النوافذ بالتكسر..
كانت الدبابات تقف قريباً جداً من بيتنا و ترمي القذائف بإتجاه مجموعةٍ من البيوت في الجهة المقابلة في حي الخضراء..لا أعلم لماذا..إلا أن الرعب و الركض للإبتعاد عن النوافذ أبعد عن ذهني قليلاً أشباح المدفونين قرب مستشفى اليرموك.
إستمرت هذه الدبابات بالإطلاق لما يقارب الدقائق العشر..
ولا أذكر سوى بكاء جدّتي (حفظها الله) و صراخها ((ألم يقولوا أن الحرب انتهت..ألم تنتهِ الحرب))...
بعد انتهاء هذه الأحداث..إتصل بي أحد اصحابي، إذ إن الهواتف كانت لا تزال تعمل في منطقتنا و بعض المناطق القريبة، ليسأل فيما إذا كنا بخير لأن سمع أصوات إنفجاراتٍ قريبةٍ علينا. كان صاحبي هذا يسكن على بُعد 5 كيلومتراتٍ تقريباً و قال أن أبواب بيتهم كانت تهتز من قوة الإنفجارات..فيمكنكم تصور ما كان يحدث في بيتنا و البيوت المجاورة.

في صباح اليوم التالي، يوم الجمعة. جاء صاحبي أحمد إلي مرّةً أخرى. و مرةً أخرى إحتضنته و رحنا نبكي في صمت. بعد عدةٍ دقائق من الصمت و الدموع، روى أحدنا للآخر كيف قضى الليلة الماضية دون نوم. كان يبدو على وجوهنا التعب الشديد و عدم النوم.
عندما اقترب موعد صلاة الجمعة، قررنا أنا و أحمد أن نذهب لنؤدي صلاة الجمعة في جامع "الملا حويش" في حي الجامعة لأننا نعرف الإمام هناك و نحسبه والله أعلم من أهل العلم و الدراية بالدين. بدأنا بالمسير بإتجاه حي الجامعة.
فصلت بيننا و بين مدخل حي الجامعة ما يقارب المئة متر..تسمى تلك المنطقة نفق الشرطة.
كان الفدائيون السوريون و العرب لا يزالون في بغداد يُقاتلون الأمريكان..في منطقة نفق الشرطة و في ساحة اللقاء.
قبل أن نصل إلى نفق الشرطة..كانت دبابات أمريكية تمر من تحت النفق..و فجاءةً ركض شخصٌ ملثم فوق النفق و رمى قنبلةً يدويةً على إحدى الدبابات الأمريكية..!!!
بالتأكيد لم تؤثر القنبلة اليدوية على الدبابة. توقفت الدبابات..و تراجعت قليلاً حتى صارت بمستوى الشارع الرئيسي و بدأت بإطلاق العيارات النارية من سلاح البيكيتا. كان هنالك مجموعة قليلة من الناس في مرمى هذه الإطلاقات إلا أنهم جميعاً إنبطحوا على الأرض و لم يُصابوا إلا شخص واحد..هذا الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر.
أصيب هذا الشاب الصغير بإطلاقةٍ إخترقت رقبته و على أثر الإصابة قُذف الشاب من حافة الرصيف الأيمن إلى الجهة الثانية من الشارع..
إستمرت الدبابات ترمي..و نحن منبطحون على الأرض..و لم يزل الشاب على قيد الحياة..كنت أرى يداه و قدماه تتحركان من بعيد..كان ينزف بشدّة..و اسمع صرخاته بين صوت الإطلاقات..حاولت أن أزحف بإتجاهه إلا أن الإطلاقات كانت تنطلق بكل الإتجاهات و آثار الإطلاقات على الحيطان لا زالت موجودة حتى يومنا هذا.
بعد عدّة دقائق..توقّفت الدبابات عن الرمي أخيراً و تحرّكت إلى ما كانت ذاهبةً إليه. ركضتُ باتجاه الشاب المُصاب..كان لا يزالُ حيّاً..و ينزف..
حاولتُ أن أوقف أي سيّارةٍ مارّةٍ لتأخذه إلى المستشفى..و لم يقبل أي سائقٍ بالتوقف...
حتّى صادفتُ أحد أصدقائي يمر من هناك و الححت عليه بشدّة أن يأخذ المصاب إلى المستشفى..و أخذناه إلى السيارة..
و نحن في الطريق إلى مستشفى الطفل العربي في منطقة الإسكان في بغداد..أخذتُ أتذكر أين رأيت هذا الشاب المسجى في المقعد الخلفي و رأسه مستند على رجلي..فقد كنت ساكناً في منطقة حي الجامعة حتى سبع سنواتٍ مضت، و لم أزل أتذكر هذا الشاب عندما كان طفلاً يلعب في شوارع المنطقة.
وصلنا إلى المستشفى..و ركض نحونا الأطباء و المسعفون و أخذوا الشاب..ولا أعلم حتى اليوم إن كان نفعه الأطباء أم مضى إلى الدار الآخرة..رحمة الله عليه في الدارين.
و قفتُ في باب المستشفى مذهولاً امام أحد أكثر المناظر بشاعةً في حياتي..كان للمستشفى حديقةٌ أمامية كبيرةٌ مساحتها ما يقارب الألفي متر..لقد تحوّلت هذه الحديقة المخصصة لنقاهة المرضى إلى مقبرة..!!
فقد إنقطعت الكهرباء عن المستشفى منذ يومين و ثلاجات الموتى لم تعُد تعمل..و حتى لو كانت تعمل..فإن عدد الموتى الذين يصلون إلى هذه المستشفى أو يموتون فيها كبيرٌ جداً..
لقد تغطّت أكثر من ثلاثة أرباع هذه الحديقة الكبيرة بالقبور..!!
بعد عدّة دقائق من هذا المشهد المذهل ذهبت و صاحبي أحمد إلى أحد الأطباء داخل المستشفى و أخبرناه أننا نريد المساعدة و أخبارناه أننا لا نملك من الخبرة الطبية شئ لأننا مهندسون. أخبرنا الطبيب أن ليس هنالك ما نساعد به إلا دفن الموتى...مرّةً أخرى.
يوم آخر لا يقل صعوبةً عن سابقه. أخذنا الطبيب إلى شخصٍ كان يعمل ممرضاً حتى الأمس و بالأمس أصبح دفاناً. قال لنا:"من تجدون في جيبه هويّةً أو أي وثيقةٍ ضعوها فوق قبره و من لا تجدون له هويةً فادفنوه ولا حول ولا قوة إلا بالله".
بدأنا بدفنِ الناس..و ما كان أشد إيلاماً من دفن الموتى رحمة الله عليهم أجمعين هو الناس الذين يأتون باحثين عن أولادهم في الجثث..يقرأون الهويات و ينبشون القبر عند الوجه ليروا إذا ما كان الميت ابنهم أو أخوهم أو أحد أقاربهم..
كنت أحفر و أبكي..
و ما أبكاني أكثر..أنني دفنتُ أحد الفدائيين السوريين الذين قُتلوا على يد الأمريكان..و كان رحمة الله عليه ريحهُ المسك..والله لن أنسى ذلك أبداً..كان هذا الشهيد إن شاء الله رائحة المسك تفوح منه عندما دفناه.

جعلني هذا افكر..
هل كل من مات غير هذا الشخص و دفناه ليس بشهيد؟؟
الأبرياء الذين ماتوا .. أليسوا شهداء..؟؟
أم أننا جميعاً شركاء في الجريمة؟؟
__________________


أنا عندي من الأسى جبلُ
يتمشى معي و ينتقلُ
أنا عندي و إن خبا أملُ
جذوةٌ في الفؤاد تشتعلُ
الرد مع إقتباس