الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #42  
قديم 24-12-2006, 06:08 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الشيخ حمدان

قد يستغرب البعض أننا وضعنا عنوانا بهذا الشكل، فيستطرف من يريد الاستطراف غامزا، بأن هل من يصبح شيخا سواء بإرادته أو إرادة غيره، هل يعتبر ذلك عملا ويُدرج مع الأعمال؟

كان الشيوخ في الزمن القديم يتم اختيارهم من بين مجموعة عقلاء ووجهاء عشائرهم بأفخاذها وبطونها، فيكون هناك شيخ وشيخ مشايخ، وكان للشيخ وظيفة قيادية متعددة الجوانب، فله دور أمني وثقافي واقتصادي و قضائي، فهو الذي يأمر بالرحيل والإغارة على الغير، وهو من يعبئ القبيلة تعبئة معنوية وهو الذي في ديوانه يقال الشعر والقصص والروايات التي تحمل في ثناياها معاني ذات قيم، وهو الذي يلجأ إليه المحتاج من أبناء القبيلة وهو الذي يقيم جلسات القضاء بين المتخاصمين، وهو الذي يستجير به الغرباء المحتاجين لحمايته، وهو الذي يحضر المناسبات خارج قبيلته، فينقل لأبناء قبيلته ما سمع أو رأى، وهو الذي يعقد الأحلاف مع الغير ..

وكان الناس يقرون بالدور له طالما كانت قراراته صائبة، وطالما كان ذا نخوة وطالما كان عفيفا كريما لا يستأثر بالخير لنفسه، شجاعا يقود من يذود عن شرف العشيرة، ذا أنفة فلا يفتخر بفعل الغير بل بفعل فرسانه. كل ذلك كان يتم عندما تكون آثار الدولة بعيدة عن التأثير في أفراد العشائر وقبائلهم، فكانوا يضعون قوانينهم بالقياس و يتذاكرون بها بالمشافهة.

في العصر الحديث، لا يستغرب أحدكم إذا قيل على مسمعه أن هناك من يفكر ليلا نهارا في أن يكون شيخا، فقد ترى في أرياف بعض البلدان العربية من يحمل (عريضة) ليوقع عليها أكبر قدر ممكن من الناس يؤيدون شخصا ليكون شيخا، وعندما يصدر أمرا من الحاكم الإداري المخول بمثل تلك المسائل، فإنه سيضع قطعة على باب بيته تقول: منزل الشيخ فلان، وقد تسوِل له نفسه أن يكتب على عباءته التي يلبسها الشيخ فلان.. وقد يتجول بين الدوائر الحكومية يوميا، يدخل على المدير قائلا له : (حق سلام) أي جئتك لألقي عليك السلام فقط، ويردف قائلا: ( جيرة الله نتناول طعام الغداء في معيتكم) .. وينتقل بحركات مبتذلة بين الدوائر والأسواق، ولا يتوانى عن حضور أي مأتم أو عرس أو مراسم صلح أو غيرها .. ومع ذلك يبقى مجالا للتندر لدى الكثيرين.

لكن الشيخ حمدان لم يفعل ذلك أبدا، ولم يجمع تواقيع أحد لكي يصبح شيخا، ولكن الدولة والحكام الإداريين والقاصي و الداني يعترف له بالأحقية أن يكون شيخا، كان مبتسما باستمرار دون أن تظهر أسنانه نهائيا، كان في السبعين أو أكثر قليلا من عمره، لكنه بعد عودته من صلاة الفجر، حيث يواظب على الصلوات الخمس في المسجد يبقى يردد بين كل عدة خطوات (لا إله إلا الله) .. حتى يصل بيته، فيفتح مضافته (ديوانه) فيحمس القهوة ومن ثم يدندن بصوت (الهاون) وهو وعاء نحاسي ثقيل يسحن به القهوة أولا بأول .. ويركب (إبريق) الشاي فوق الفحم يتجمع حوله مجموعة من أقاربه في مثل سنه أو أقل قليلا، وواحد من أبناءه الستة أو أكثر، حتى تحضر زوجته (الحجة) الإفطار للجميع، ويكون بيضا مقليا بالسمن العربي وبعض اللبن وأحيانا بعض الكبد المقلي أو ما وجد في البيت ..

لو تفحص أحد المتابعين لهذا الشيخ كلماته التي يرددها في مناسبات مختلفة وما أكثرها، فإن كلفه أحد بأن يعيد (زعلانة) من زوجها أو أن يذهب لخطبة فتاة لأحد الشباب أو يتوسط لأحد المواطنين عند الشرطة أو في دائرة ما، أو يذهب مع أحد المرشحين للبرلمان لجمع المؤيدين وطلب الأصوات، أو أن يدخل في وساطة صلح عشائري كقتل أحد أو غيره، فإن صيغة الكلام في كل المناسبات تكاد تكون متشابهة .. فهو بعد أن يشير الجميع أن يوضع فنجان (الجاهة) أمامه فإنه يبادر بالكلام : ( نحن نتشرف أن أتينا الى بيوتنا .. وكما يقول المثل المصارين بالبطن تتقاتل.. واثنان غانمان لم يصلا قاض) .. هذا في حالة الخصام ورد من تخاصم زوجها.. وحتى في حوادث القتل .. وعندما يريد أن يطلب أصوات لأحد فإنه يقول : ( نحن نتشرف في بيوتنا .. وكما يقول المثل فإن عصانا وعصاكم واحدة ) أي نحن في طيلة حياتنا حلف ..

والعجيب أن الشيخ حمدان والذي تم انتخابه خمس مرات للمجلس البلدي، كان هو الوحيد في أي كتلة انتخابية الذي لم يخفق (يرسب) في أي انتخابات. كان المثقفون يتندرون من أن يتصدر أمثاله المجتمع المحلي، لكن ما أن تحدث مشكلة مع مثقف حتى يسارع الى الذهاب إليه ليذلل له خطبة (عروس) أو يحل له مشكلة (دهس) أحد .. فهم يعرفون جيدا أنه رغم قلة حيلة الرجل الثقافية والمنطقية ، إلا أنه لم يدخل في أي موضوع إلا انتهى لصالح من طلب معونته ، حتى غدا معظم أصدقاءه من المثقفين ..

كان المثقفون يجلسون لمناقشة تلك الظاهرة، فيبتسم أحد الظرفاء منهم ، ويحاول إنها الحديث بقوله: إنها (الكاريزمية) .. فهي لا تعرف شهادة جامعية ولا تعرف مال ولا تعرف قوة عضلات .. إنها (الكاريزمية) ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس