الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #44  
قديم 15-02-2007, 03:15 PM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

في مكتب السجل التجاري

فرح عندما ناولته الموظفة التي تجلس خلف جهاز الكمبيوتر بعض الأوراق، مع كلمة فهم منها أن مشواره في طلب تلك الأوراق قد انتهى، وما عليه إلا أن يوقعها من مدير الدائرة و يذهب ..

بعد أن وقعها المدير، وأعطاه نسختين، لم يدقق بهما، ولم يشأ أن يطويهما حتى لا يفقدا رونقهما، بل حملهما بحذر، كأنه يحمل طبقا من بيض الدجاج، وفتح باب سيارته ووضعهما بجانبه، وانطلق، كان الوقت بعد الظهر بحوالي ساعة، وكان عليه أن يمر فوق طريق يصل فيه بلدته، حيث هناك مقبرة لمركز المحافظة. ومعلوم أن موكب السيارات التي تتبع الجنازة يكون من يقود السيارات فيها منضبطين بجلال الموقف، فيسير الموكب بانتظام و هيبة لا تعيق من يشاركهم الطريق كثيرا، ولكن وقت عودتهم لن يكونوا منضبطين، فيسقط عنهم الوقار و يتسابقون بسرعة حتى ينتهوا من تلك المراسم التي تدخل تحت باب الواجب وليس تحت باب المسئولية ..

كان عليه أن ينتبه لمثل تلك الفوضى في الطريق الذي تزامن مروره به، مع انتهاء مراسم الدفن، لأن الطريق ليس بمسربين بل بمسرب واحد للقادم والمغادر، وكان وراءه شاب يتحين الفرصة لتجاوزه في سيارة حديثة، ولا تدري ماذا يدور في رأس ذلك الشاب، أتراه يريد أن يثبت أنه قادر على المناورة بنجاح بين تلك الأعداد الضخمة من السيارات، أم وراءه مهمة مستعجلة، أم أنه في حاجة للدخول للحمَام؟

كانت هناك لحظات تتوقف به طوابير السيارات، لإفساح المجال لأحد المعيقين للمرور، ففي أثناء توقفه، سرق نظرة ليرى ما كُتب على شهادة السجل التجاري التي أحضرها .. ابتسم ثم تضايق .. لقد رأى البيانات المكتوبة بخط بارز على ورقة فاخرة : نوع التجارة: صناعة الأعلاف الجاهزة والمخلوطة، المدينة: كذا، رأس المال: كذا.. المفوض بالتوقيع: صاحب المطعم .. هنا ابتسم متذكرا تلك النكتة التي تروى عن غبي يسأل صاحبه: (النمر أسرع .. أم الزرافة أطول؟).

أما سبب غضبه فإن الجهة التي طلبت الشهادة قد ترفضها لهذا السبب، فما علاقة صاحب المطعم بالمصنع، ربما لن يسألوا فالأعلاف تعني إطعام الحيوانات وصاحب المطعم هنا هو نفسه صاحب المصنع ..

لكن ما الذي جعل الكمبيوتر يُخطئ في ذلك؟ ومن يقول أن الكمبيوتر هو من يقوم بذلك؟ .. إن مناولة الكمبيوتر للمعلومات هي المسئولة عن ذلك .. وقد تكون كلمة مطعم قد أدخلت في حالة جوع للموظف أو الموظفة ..

استعاد في ذاكرته كيف كان حال تلك الدائرة قبل تسع سنوات عندما زارها قبل تلك الزيارة، كانت غرفها أقل وهناك جهاز كمبيوتر واحد، يضعه المدير على المنضدة أمامه، ويضع على رأسه غطاء سميكا وعقالا بحجة برودة الطقس، كان المدير وقتها ضخما ووجهه مليء باللحم والشوارب، ولا يوحي وضعه أنه يتقن التعامل مع ذلك الجهاز، وعندما دخل عليه خلسة كان ذلك المدير يلعب الورق على الجهاز، ولم ينتبه لدخوله، وقد يكون استدرك تلك الهفوة فاستخدم حاجبا يقف على الباب لمنع المتسللين لتخريب خلوته ..

لقد انتقلت الدائرة الى مكان آخر، غرف مكانه على ما يبدو قد تم تفسير مخطط البناء لها بشكل مقلوب، فمخططات البناء عادة تكون غرفتين نوم وحمام أو ثلاث غرف نوم وحمام أو عشر غرف نوم وحمامين، لكن هذا البناء قد وضع فيه عشر حمامات و غرفتي نوم .. ولكن الغرف قد خلت من أطقم الحمامات وأنابيب المياه، فأبعاد الغرفة الواحدة (التي هي على ما اعتقد كانت حماما) مترين بمترين و نصف .. ولا أعلم لماذا اختيرت تلك البناية لتكون دائرة!، قد يكون اختيارها آت من دراسة سيكولوجية عميقة، فالموظف يبدو للمراجعين أنه أكبر من الغرفة .. وهي دلالة تترك انطباعا يجعل المراجع ينظر نظرة تعظيم لذلك الموظف .. بخلاف الموظف الذي يكون المكان الذي يجلس فيه واسعا، حيث يضيع بتلك المساحات ويتوزع الكادر ( والكادر هنا مصطلح يستخدمه المصورون والمخرجون في التصوير السينمائي).

لم يكن بالدائرة الجديدة نظام للتدفئة المركزية، وعليه فقد خُصص للدائرة مستخدم مسئول عن العناية بالمدفئات النفطية، فخلال الساعة لاحظته أكثر من ثمان مرات، إما يخرج مدفئة أو يدخل مدفئة، كان أصلعا ذا جسم مليء، وكان يغيظه وجود مراجعين اثنين بالعشرينات من عمرهما لهما صلعتين كأنهما قاما باستيرادهما استيرادا، ولا أدري لماذا طغى الصلعان هذا اليوم على جمهور المراجعين .. كانت الشفة العليا لأحدهما تطغى على وجه صاحبها الذي كنت أعتقد أنه أخ شقيق للأصلع الآخر .. لكنه تبين من خلال تلك الشفة أنه ليس على صلة بالآخر ..

في الممر الضيق حيث طُلب من المراجعين أن يجلسوا على المقاعد فيه، لا يستطيع اثنان أن يخطوا بجانب بعضهما لأن المقاعد المتقابلة ومن يجلس عليها سيعيق حركتهما فكان المار من الممر يتوجب السير فردا، تماما كما هي الحال في جوف الأسلحة النارية..

سيكون وجه من يجلس منتظرا، يقابل وجه من يجلس أمامه، كان الذي أمامه والد أحد الأصلعين، سأله: كيف الحال؟ أجاب بتثاقل : الحمد لله .. هناك متسع من الوقت، حتى لو كان حماس والد الأصلع غير متوفر في طرح الأسئلة، لكنه أصر على طرح سؤال آخر: أين أيامك؟ فأجابه بما يلاءم صيغة السؤال: مكانها..

يقبل من طرف الممر رجل قياساته أكبر من قياسات الممر، كان يحني ظهره، لا لأنه كبير في العمر، بل هي خصلة الطوال الذين يدخلوا من أبواب تتساوى مع أطوالهم، كان يسير واضعا كامل قدمه على الأرض، وبطريقة، كأن من يراه أمام إعادة مشهد على البطيء ..

انتهى موكب سيارات الجنازة .. وكان عليه أن يفكر في زيادة سرعة سيارته طالما أصبح الطريق أكثر أمانا ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس