الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #45  
قديم 04-05-2007, 06:32 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

القصير (المبيض أو الملبس )

في كثير من الأمور تختلف التقييمات، من شخص لشخص، ومن متكلم لآخر، وأحيانا تختلف التقييمات لدى الشخص نفسه تجاه مسألة واحدة، لكن توقيت التقييم، هو الذي تغير .. وهذا معروف منذ القدم ..

في قضايا التصنيف الاجتماعي، تختلف النظرة السريعة تجاه شخص أو فئة كاملة، وقد يحاول صاحب النظرة أن يعمم نظرته لتصبح قانونا ثابتا، وقد تكون السرعة في تلك المسائل هي ما تجعل العالم مضطربا منذ الأزل ..

فلو نظرنا مثلا لعقائد الشيوعيين ونظرتهم للحياة، والتي تزعم في كل نظرياتها أنها تنحاز لفكرة العدالة، وإنصاف المسحوقين من مواطني العالم، لكننا لو فحصنا الضمانات التي تجعل من يقرأها أو يسمعها أو يطلع عليها والمنسوبة للشيوعيين ، لوجدناها معدومة، فلا توجد ضمانات لثبات تلك الصفة عند المدعين لتلك الأفكار. والدليل أن من قاد الاتحاد السوفييتي للانهيار هم قياداته التي تربت وترعرعت وصعدت في تسنم مراكز السلطة فيه، وهي فترة قصيرة إذا ما قيست في أعمار الإمبراطوريات، ولم يكن (جورباتشوف و شيفرنادزه، ويلتسين) مندسين في صفوف الشيوعيين ..

قد يتعجل من يبشر بعودة الحكم ذي الطابع الديني، ويقول إن الالتزام الأخلاقي، يرتبط بشكل ما بالالتزام بالدين، وكنا قد رأينا عبر التاريخ، كيف أنه، حتى هذا النوع من الحكم قد تفتت و هوى، كما هوت وتغيرت كل أصناف الحكم في العالم وعلى مر التاريخ ..

أحيانا تنحاز فئات مثقفة، الى الوقوف الى جانب العمال، لثقافة أخذت مكانها في نفس المثقف، ولكن هذا المثقف، قد تكون صورته لدى هؤلاء العمال بأنه حالم برجوازي، ولا يحتاجه العمال لأن يكون نصيرا لهم، فتكون صورته لدى العمال من السوء بمكان بحيث لا يتوقع هو تلك الصورة، وإن اكتشفها فإن صورة العمال لديه، قد يجري عليها تعديل وفق ذلك الاكتشاف، وإن حدث هذا التعديل، فإن عيبا في ثقافة المثقف قد تكون منذ البداية في تكوينه الثقافي دون أن يدري ..

القصير أو المُبَيِض أو المُلَبس، هو ذلك العامل الذي يقوم بتغطية الجدران والسقوف المبنية حديثا، بطبقة من الإسمنت والرمل، وأحيانا من الجبصين أي الجير المطفي كما يحدث في بعض المناطق بالعراق ويطلقون على العملية اسم (اللبخ) .. يحتاج العامل فيها الى لياقة كبيرة وصبر وحذر، فأحيانا تجده معلقا على واجهات بنايات على ارتفاع عشرات الأمتار، يثبت قدميه على لوح من الخشب عرضه لا يزيد كثيرا عن القدم، وعليه أن يقوم بعدة مهارات في آن واحد، أحدها وأهمها تتعلق بحفظ توازنه وعدم نسيان أين يقف، والثانية أن يتفقد المساحات التي أمامه، ليغطي شقوقها بإتقان دون أن يجعل السطح مموجا، وعمليات أخرى تتعلق بإعطاء الأوامر وتلقي الكتل المجبولة ليتزود بها في إنجاز عمله .. إنها مهمة ليست سهلة بطبيعة الحال، ومن يمتهن تلك المهنة لا يقوى على الاستمرار بها الى مالا نهاية، بل يتقاعد بسن مبكرة، وعليه أن يعرف الأجر الذي سيتقاضاه نظير عمله، حيث لا تقاعد ولا ديمومة طويلة لمثل هذا النوع من الأعمال ..

من يساعد هذا العامل الماهر، يكون عمال من الشباب الذين لا تزيد أعمارهم عن خمس وعشرين سنة، وهم يبذلون جهدا مضاعفا، في تحضير خلطات المواد، ومناولتها لمن يقوم بهذا العمل، ويتلقون منه الأوامر ويتقاضون أجورهم باليومية، في حين يتقاضى (المعلم) أجرته على المساحة، وعملية حساب المساحة معقدة، لا تقتصر على ضرب الطول بالعرض، فزوايا العمدان لها حساب والنوافذ والبرزات لها حساب، وأي سطح دائري له حساب، والعامل المساعد للمعلم عندما يحسب ما يتقاضاه معلمه ويجده يزيد أضعافا مضاعفة لما يتقاضاه هو، تتكون لديه مشاعر مركبة فهو يطمح أن يصبح معلما مشهورا يحيل عليه المهندسون والمقاولون أعمالا تدر عليه بعض الربح، ولكنه في نفس الوقت لن يكون مبتهجا ليكون مصيره معلم (قصير أو مبيض) .. لطول الفترات التي يمضيها دون عمل، واحتمالية عدم حصوله على الشهرة، وبنفس الوقت الجهد العضلي المبذول في تلك المهنة الشاقة والمخاطر التي قد يتعرض لها نتيجة السقوط أو الإصابة .. ولقلة خياراته في إيجاد عمل له، يضطر للصمت والطاعة لمعلمه .. لكنه يخفي بعض عدم رضاه عن صاحب العمل، والنظر الى معلمه على أنه يستثمر جهده بشكل غير عادل .. وهذا الشيء نجده أحيانا عند أطفال الفقراء المحرومين عندما يقشطون دهان سيارة حديثة وفارهة بواسطة مسمار أو قطعة معدنية، تعبيرا عن عدم رضاهم في توزيع الأرزاق بين البشر ..

عندما جاءت الورشة لإنجاز (تبييض) جدران وسقف صغير، لا تزيد كل مساحتها عن مئة متر مربع، وهي حمام إضافي لمكتب يقع فوق سطح فرش بالبلاط، وأقيم عليه مكتب منذ مدة مكون من ثلاث حجرات، كان صاحب المكتب ممن ينحازون الى جانب قضايا العمال. كانت مساحة السطح أكثر من أربعمائة متر مربعة، حاول العمال المساعدين للقصير أن لا يبقوا أي متر مربع دون أن يقوموا بخلط الإسمنت والرمل عليه، وكانوا إذا دخلوا المطبخ لن يبقوا أي شيء دون أن يعبثوا فيه، ولم يكن بالإمكان إغلاقه لأكثر من سبب أدبي وعملي، فقد كان يرغب أن يعملوا الشاي على طريقتهم، كما أن تزودهم بالماء لخلط المواد، كان مصدره المطبخ أو الحمام المحاذي له. كان من المتعذر على أي زائر للمكتب أن لا تصطبغ ملابسه باللون الأبيض المغبر نتيجة الطريقة التي كان العمال يقومون بها في تنفيذ مهمتهم ..

كان بعد أن ينهوا عملهم، يحاول تخفيف الحمولة الترابية والملوثة لكل شيء، فيجد أكواب الشاي أو فناجيل القهوة عبارة عن كتل إسمنتية، وأرضيات المطبخ والحمام تعلوها طبقات سميكة من المحاليل الإسمنتية ..

بعدما أنهوا عملهم، طلب منظفا للسطح فطلب ثلاثة أضعاف ما تقاضى عمال التبييض .. أعطاهم أجورهم، دون أن يبدي تذمره نهائيا .. لكنه تذكر ما كان قد رآه في مدن بريطانيا و إيطاليا في ورشات بناء عمارات تزيد عن عشر طبقات دون أن يتلوث الشارع، أو تعاق حركة المرور، بل كانت توضع الممرات المضاءة ليلا، والمزودة بلوحات فنية حتى لا يضجر المارة، وترفع المواد بطرق لا تترك ذرة من الغبار .. وقد تكون الكلف العامة أقل من الكلف لدينا (قياسا)..

لكنه عاد الى رشده، فاعتبر أن نمو علاقات الإنتاج في الغرب، وما أنجزه العمال في أخذ حقوقهم، هو ما جعلهم يسلكون سلوكا يتناغم مع السمات الحضارية المعاصرة، في حين أن بلادنا لا تزال أمكنة لا يحس بها العمال بالأمان الاقتصادي والاجتماعي، ولا يعلمون مصيرهم على وجه التحديد، فمن حقهم أن تكون علاقاتهم غير ودودة مع المجتمع ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس