الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #46  
قديم 21-06-2007, 04:54 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

الدليل السياحي

عندما سأله موظف الجوازات في مطار الدار البيضاء عن سبب زيارته للمغرب، تلعثم ولم يجب بسرعة، فحاول الموظف مساعدته، بالإجابة عنه منتظرا منه تأكيد الإجابة والموافقة عليها: سياحة؟ فأجاب بالنفي.. هل سبب زيارتك اقتصادية، لتمشية أعمال معينة؟ أجاب بالنفي أيضا.. ابتسم الموظف، وناوله جواز سفره، فلم يكن للسؤال أهمية، أصلا، فإن كان قد ذهب لغرض معين، ودون في الاستجواب، سببا مختلفا، ماذا سيترتب على ذلك؟ ولعل الموظف استعاد تاريخ عمله في هذا المكان وما تناقله زملاؤه في العمل من قصص، فلم يجد واقعة تبرز أهمية تلك الأسئلة ..

كما أن تلعثمه قد صدر نتيجة عجزه عن تصنيف سبب الزيارة، فلم يذهب للتجارة، وقد كره لفظة (سياحة) منذ صغره، فالسائح بنظره، هو من فاض ماله، وذهب الى مكان ما في العالم، بطرا وزيادة في طلب المتعة، ولم يكن هو من هذا الصنف .. وقد تذكر صور السائحين الذين كانوا يعبرون الحدود على دراجات هوائية، والأطفال تتعقبهم، وهم بملابس قصيرة تكشف عن سيقان شقراء قد صبغتها شموس إفريقيا والعالم الفقير، ليظهر عليها زغب أشقر يذكر بزغب صغار أفراخ الديك الرومي .. لم يكن يحب أن ينتمي لتلك الفئة .. وأظنه لو كان يعلم على وجه التحديد سبب زيارته للمغرب، لأبلغ عنها الموظف السائل وليس (المسئول) .. وقد يكون لم يدرج في حسابه أنه سيتعرض لسؤال مثل ذلك، وهل يتم سؤال من كان في وطنه عن سبب وجوده في وطنه؟ وإلا لماذا يحفظ هو مع أبناء المغرب (بلاد العرب أوطاني .. من الشام لبغدان ؟ ومن نجد الى يمن .. الى مصر فتطوان ) أليست تطوان أحد ولايات المغرب؟ وهي وطنه بالتالي؟ ..

كانت زيارته الأولى للمغرب، وقد تجاذب الحديث مع أحد المسافرين العرب، الذي كان يجاوره في مقعد بالطائرة، و جاره، الذي كان يبدو عليه أنه كثير المجيء للمغرب، ولم يكن من أهل المغرب، قدم له صورة أو صورا تختلف عما كون (هو) من صور عن المغرب من خلال الأطلس والجغرافيا والتاريخ وبرامج التلفزيون .. فوضعه بحالة تشبه من يدخل بسيارته طريقا لأول مرة، هل يسرع أم يتأنى؟، هل سيفضي الطريق الى انحدار أم انعطاف خطير؟ وتكون لعلامات المرور، عند تلك الحالة أهمية استثنائية، غير التي تتشابه معها وتوجد على طرقات اعتاد المرور فوقها .. فترى السواق الذين اعتادوا المرور على نفس الطريق يتجاوزون من يمر عليه لأول مرة، وأحيانا يرمقونه بعين عدم الرضا لتردده وبطئ سرعته ..

كان من نصائح جاره في الطائرة أن يستقل القطارات في تنقله ويتجنب الركوب بالتاكسي (الطاكسي على رأي أهل المغرب) .. ولا يعبأ بالتفاف الذين يعرضون خدماتهم عليه .. وإذا أراد الذهاب لطنجة فعليه أن يستقل القطار من محطة قرب المطار ..

عندما استدل على حقائبه، كان هناك أربعة ممن يعرضون خدماتهم عليه، ابتسم وتذكر أن هذه الحالة ليست مقتصرة على المغرب، فهي في كل الأقطار العربية الفقيرة، ولا تؤخذ نصيحة من (ثري) للتعامل مع فقراء، إذا كان من يتلقى النصيحة يدعي أنه ينحاز للفقراء، رغم تفوقه بالقدرة الشرائية عليهم .. لم يكن يعلم على وجه التحديد، عن قيمة العملة المغربية، وكيفية التعامل معها ومعادلتها مع عملته التي اعتاد عليها، ولم يكن يحب العملات الأجنبية لا (الدولار) ولا (اليورو) ولكنه كان مضطرا أن يحتاط على عملة أجنبية (الدولار)، لتيقنه من عدم شيوع استعمال العملات العربية في بلاد العرب! .. وفي هذه الحالة ستكون ردات فعله للتعامل مع الأسعار المحلية كتعامل حكم كرة قدم قام بالتحكيم في مباريات ودية لأندية درجة ثالثة، ويطلب منه التحكيم في مباريات كأس العالم ..

عند باب محطة القطار، توقف مع عينات من المسافرين الذين هم من بلاد أقرب إليه جغرافيا، فسألوه عن وجهة انطلاقه، فأجاب : الى طنجة، تداخلت إجاباتهم وأحاديثهم، لا تسكن في شقة مفروشة، أطيب شيء عندهم القهوة، إنهم يسمونها (قهوة كَحلَة)، أكلهم لا تطيقه، إن لهم حبا في تناول الأسماك .. ذهب لشراء بطاقة في القطار، فسأله الموظف سؤالا عن وجهته، فأجاب، فعلق الموظف تعليقا لم يفهم معناه بالضبط، ففي المغرب، يتم تسكين الحرف الأول من الكلمة .. فيكون وقعها على الأذن مضطربا، لا يصل المعنى إلا بحدود النصف .. وهي احتمالية خطيرة، قد تأخذك للشمال، وقد تأخذك للجنوب..

أبرز تذكرته لمفتش البطاقات والذي كان يُطلق عليه في العراق (التي تي) .. فاستفسر من المفتش، عن الكيفية التي سيصل بها الى طنجة، أجابه المفتش على عجل، فلم يفهم منه، لكن أحد الركاب المغاربة فهم حاجته، فتطوع بشرح الكيفية التي عليه أن يتبعها .. فعليه أن ينزل بمحطة (عين السبع) ومنها يستقل القطار الى (سيدي قاسم) ومن هناك، عليه أن ينتقل الى قطار (طنجة) ..

في طريقه لسيدي قاسم، نصحه أحدهم أن ينزل في القنيطرة، ويأخذ حافلة على الطريق السريع، ومنها سيصل الى طنجة بيسر ..

لم يلحظ بالقنيطرة أي ملامح عدوانية، كالتي تم تحذيره منها، فبالرغم أنه أخرج نقوده كاملة أكثر من مرة أمام أكثر من صنف من المواطنين، فإنه لم يفقد فلسا واحدا، بخلاف ما حدث له في إيطاليا أو جنوب إفريقيا، وكلتا الدولتان تصنفان على (العالم الأول) .. كان الكثير من الناس، يعرض خدماته مجانا، وبأنفة عهدها في أكثر من مكان في البلدان العربية .. ولعل الناس الذين يبنون صورهم القبيحة عن الشعوب، يكونون (هم) في وضع لا بد من تعرضهم لما يتعرضون له، كالذي يمر من جنب (جرو) وهو في وضع خائف، فإن الجرو سيستأسد عليه، ومن يذهب في هدف (بطال) يشتم رائحته كل من يبحث عن صنفه ..

عندما اقترح من كان سببا في زيارة المغرب، برنامجا للتعرف على شمال المغرب، تم الاتصال بشاب اسمه ( عبد الرحمن) أحضر سيارته وأخذه الى ملتقى البحرين (الأطلسي والمتوسط) ودخل مغارة (هرقل) .. وكانت رطبة تنحدر قليلا، يجلس فيها من يبيع قطع التراث القديم، وكانت لحية البائع البيضاء وهدير البحر والظلمة والرطوبة كفيلات لجعله كأنه وضع في آلة العودة بالزمن للوراء ..

وفي اليوم الثاني، أخذه عبد الرحمن الى (تطوان) وجعله في الطريق يتوقف عند مضيق جبل طارق، ويدخل المنطقة الحدودية، بعدما تأكدت الشرطة، أن هذا العربي، لن يبتكر ما يكدر علاقة المغرب مع الاتحاد الأوروبي، من خلال تسلله عبر المضيق الى أوروبا، هاربا .. تناول سمك السردين الطازج والمعد بطريقة شواء الصيادين .. ودخل تطوان بعد أن لمس حضور المشاريع العربية المشرقية هناك .. وكان يحدق في الأسوار التي تشير الى أحياء من هربوا من الأندلس، ليستقروا في المغرب .. دخل وصلى العصر في جامع (محمد الخامس) بتطوان .. وتجول بالأسواق .. وعاد الى طنجة .. وتكررت الزيارات الى الأماكن المحيطة بطنجة .. ولم يقبل عبد الرحمن الذي لم يتصرف كدليل سياحي أن يأخذ بدل الأيام الأربعة، إلا بإلحاح من ضيفه .. فقد أخبره عبد الرحمن إن الاتصال بإخواننا و التعرف على طبائع تفكيرهم وأخلاقهم أفضل ثمن وأكبر أجرة ..

لم يزر سوى ولاية من ولايات المغرب الثمانية، فامتلأت رئتاه بعبق الأخوة والشعور بتماسك تلك الأوطان الوجداني، فكيف لو تم زيارة (فاس ومكناس والرباط و مراكش) وبقية أنحاء المغرب، أو كيف لو تم زيارة بقية بلدان وطننا الكبير ..

ومع ذلك رفض أن يصنف كسائح ..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس