الموضوع: ساعة عمل
عرض مشاركة مفردة
  #47  
قديم 15-08-2007, 05:31 AM
ابن حوران ابن حوران غير متصل
عضو مميّز
 
تاريخ التّسجيل: Jan 2005
الإقامة: الاردن
المشاركات: 1,588
إفتراضي

أبو فوطة

من بين القضايا الاجتماعية الكثيرة التي تجمعت لديه دون أن يقرأها بكتاب أو يتعلمها في مجلس، قضية سلوك الآخرين تجاه ما تكون عليه هيئتك الخارجية .. فقد كان يستعمل بصفة شخصية مركبتين: أحدهما (بيك أب) ياباني موديل 1988 و سيارة مرسيدس 2000 (قرش ونص) [حسب التسميات الدارجة] .. فإذا أراد أن يتفقد أعماله الزراعية استخدم ( البيك أب) .. ولم يكن يفاجأ بطريقه في أن يستوقفه الكثير من الناس الذين يطلبون توصيلهم الى المدينة كركاب، وأحيانا يكون مع هؤلاء المسافرين (كبشا) أو (كيسا) من (جعابير) و(هو الشمام الذي لم ينضج بعد، تكون أحجام ثماره بأحجام كرات التنس الأرضي) .. فيكفي منه إشارة بالاعتذار عن التوقف، وأحيانا يتوقف ويحمل أحدهم بعد تقدير الجانب الإنساني للحالة ..

أفراد شرطة المرور ودوريات الجمارك، هم الآخرون لا يتوانون عن توقيفه عندما يقود (البيك أب) .. ولكن كل تلك المظاهر تختفي عندما يركب سيارته (المرسيدس) .. فلا يعود هناك من يؤشر له ليحمله معه من على الطريق، وإن توقف متطوعا لحمل أحدهم فإن هذا (الأحد) سيتردد كثيرا قبل أن يوافق على نقله .. وإن مر بجانب دورية شرطة أو جمارك، فإن رفع يده بتحيتهم سيردون على تلك التحية بحماسة لم تكن موجودة عندما كان يركب (البيك أب)..

ما الذي يجعل الناس يتعاملون على هذا النحو؟ فقد يحس الفرد بأن هذا الكائن الذي يستقل تلك المركبة الفخمة، أحد وجهاء المنطقة أو أحد المدعومين أو أحد اللصوص أو أحد المرابين، فالاقتراب منه لن يكون مريحا، فإن خالفه الشرطي أو استوقفه لا يضمن شكل ردة فعله فيما بعد، وإن طلب أحد منه أن يوصله فقد تكون نظرات صاحب السيارة المرفه قد تضايق من ركب بجانبه إذا ما اكتشف ثقبا في ساق جوربه أو سوء كي ملابسه .. فيفضل الواقف على الطريق المكوث بشكل أطول من أن يغامر تلك المغامرة غير مضمونة العواقب..

على الإشارات الضوئية تجد أناسا طوروا فكرة التسول وجعلوا منها عملا مبررا (بالإلزام ) .. فمنهم من ينفخ (بالونا) ويتقدم به نحو أنماط من السيارات ينتقي منها ما يتناسب مع الفترة التي ستعلن الإشارة الحمراء انتهاء فترة التوقف فيتجول بين عينات هي الأفضل من العينات الأخرى للسيارات، عله يحظى بمن يشتري ذلك (المنطاد) .. كما سترى أطفالا يحملون أوعية مسطحة بها بعض قطع (العلكة) .. يتقدمون نحو نوافذ السيارات يرسمون على وجوههم مسحة حزن ورجاء، تدربوا عليها جيدا لتكون مؤثرة بشكل قياسي ـ استغلالا لوقت الإشارة الضوئيةـ .

كان (أبو فوطة) يحمل فوطة لا لون لها، فلن يستطيع أحد أن يقول أن لونها أبيض أو أسود أو بني .. كان فيها كل الألوان ولكن دون وضوح .. وكانت ليست جافة وليست رطبة، وهي مهارات استدل صاحب الفوطة على الهيئة التي يجب أن تكون بها حالة الفوطة، فإن كان بها ماء زائد قد تسيل وتترك دروبا على زجاج وجسم السيارة يصعب إزالة ما حملت من ذرات غبرة مع سيلانها بسرعة .. وإن كانت جافة لن تدل حركتها على أن صاحبها قد قام بعمل يستحق عليه (البخشيش) ..فقد كان يعصرها جيدا لدرجة انعدام وزن ما تحمل من ماء، وكان يستبق قدوم صاحب السيارة بثواني ليضيف لمساته الأخيرة على سيارته، وقد تكون تلك اللمسات ليست الأخيرة فحسب، بل الوحيدة أيضا ..

كان لا يشاور من يريد أن يمسح سيارته، وكان ينتقي السيارات الحديثة والنظيفة، ويدرس هيئة من نزل منها ومن يصطحب، فكان لا يحبذ مسح السيارات التي أصحابها شباب، أو أصحابها متقدمين في السن، بل كان يُفضل من جاء مع صديقته وكان يدرس كعالم نفس هيئة هؤلاء، فكرم الصديق يكون أفضل إذا كانت فترة صداقته أو معرفته بمن معه سواء كانت خطيبته أو زوجته المدللة، أما من كانت زوجته سمينة و اقتربت حياتهما الزوجية على التقاعد فسيكون اعتراض الزوجة أكبر من اعتراض زوجها .. فقد تبادر لسؤاله: من كلفك بمسح السيارة؟ هذا إن لم تشتمه وتنهره ..

كان أبو فوطة يتواجد في ساحة واسعة، لا سور لها ولا عليها حارس، فتقف بها سيارات المستعجلين والذين لا يرغبون في دفع أجور التوقف في مواقف مرخصة ومعروفة .. فكانت قيمة (البخشيش) تجمع معه يوميا ما يحصل عليه ثلاثة من عمال البناء ..

تحرى أبو فوطة عن صاحب الساحة، فعرف أن صاحبها في كندا، وإنه كان على خلاف مع ورثة آخرين متناثرين في أكثر من بقعة جغرافية، ولما لم يراجعه أي منهم طيلة سنوات .. فقرر أن يضع عوائق أمام الساحة لا تلفت الانتباه بأن هذه الساحة أصبحت مرخصة خشية من دوائر البلدية أن تلاحقه، ولكنه يقف في الفتحة التي تفضي الى الساحة مبتسما، ويشير الى صاحبها محددا مكان وقوفه .. وعند خروجه من نفس الفتحة، كان يقف مبتسما فيناوله صاحب السيارة بعض النقود، حتى تعود الناس ذلك.. قام بعدها بطباعة أوراق عليها التسعيرة، فكان أصحاب السيارات يدفعون له دون تذمر ..

لكنه لم يستغن عن الفوطة نهائيا، تحسبا لحضور مفاجئ لأصحاب الساحة، أو تحسبا لمطالبة الدوائر المعنية إبراز رخصته، فإن سلوك (حمل الفوطة) هو ما سيشفع له .. فلم يثبت التسعيرة على (الكرت) أنها بدل وقوف السيارة، فإن سأله أحد عنها سيجيب إنها تسعيرة (الفوطة)..
__________________
ابن حوران
الرد مع إقتباس